خطير، بل بالغ الخطورة، ما قاله وحذر منه المبعوث الأميركي الخاص توم برّاك في حديث الى صحيفة "ذا ناشونال" الإماراتية من أن لبنان يُواجه خطر الوقوع في قبضة القوى الإقليمية ما لم تتحرك بيروت لحل مشكلة أسلحة "حزب الله". نقض برّاك كل الايجابية التي بثها خلال زيارته بيروت الاثنين الماضي، اذ قال إنّ "لبنان بحاجة إلى حلّ هذه القضية وإلا فقد يواجه تهديداً وجودياً"، مضيفاً: "إسرائيل من جهة، وإيران من جهة أخرى، والآن سوريا تتجلّى بسرعة كبيرة، وإذا لم يتحرك لبنان، فسيعود إلى بلاد الشام". وأضاف: "يقول السوريون إن لبنان منتجعنا الشاطئي. لذا علينا التحرك. وأنا أعلم مدى إحباط الشعب اللبناني. هذا يُحبطني".
إنه التاريخ يعيد نفسه، والاطماع السورية بلبنان، يبدو أنها لا تتبدل مع تبدل وجوه الحكم والنظام في البلد الأقرب، والممر الحيوي والضروري للبنان إلى العالم العربي. في مطلع تسعينيات القرن الماضي، أطلقت الإدارة الأميركية يد سوريا في لبنان، في مقايضة سياسية لكسب ودّ نظام حافظ الأسد وتغطيته غزو العراق، للقضاء على الرئيس صدام حسين. ولا أعرف إذا كان الرئيس السوري الراحل يدرك تماماً انه يوقع على نهايته، اذ ان مسلسل القضاء على عدد من الأنظمة العربية انطلق منذ ذلك الحين.
تحقق لحافظ الأسد انتصار وهمي في لبنان، وهو تماماً ما يحصل عندما لا يستطيع أي فريق تحقيق الإنجازات الكبرى، يهدد ويستولي ويحكم الفريق الأضعف ليجعله إما ورقة تفاوض ومقايضة، او للمضي بسياسة إنكار الواقع المزري لعدم البدء بتعداد الخسائر. تماماً كما يجري في الداخل اللبناني. اليوم تكمن الخطورة في أن الرئيس الأميركي دونالد ترامب، الذي لا يحبذ الحروب وفق ما يردّد، يعمل لبناء "سلام" يحقق له حلمه بالتوسع الاقتصادي والنفطي والمالي.
وهو بذلك انما يعمل على ضمان أمن هذه الخيرات والطرق المؤدية إليها. ويحبذ أن يخفف من عبء حماية إسرائيل، وإزاحة اي تهديد لها، للتفرغ إلى عالم المال، والقبض على خيرات المنطقة. لا تريد الإدارة الأميركية، أن تبذل الجهود الكبيرة في لبنان، فهو أصغر من أن يشغل العالم كما يظن أهله، هو تفصيل، سلّم مراراً إلى إسرائيل وسوريا، من دون أدنى تردد.
وهو حالياً متروك عرضة للاعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وأمنه الداخلي رهينة أي حراك سوري مع وجود مليوني لاجىء سوري على أراضيه، يمكن ان يشكلوا وقوداً لفوضى لا يمكن للأجهزة الأمنية اللحاق بها، لضبطها. ما قاله توم برّاك، اللبناني، يكشف صراحة نظرة الادارة الأميركية لـ"الملف اللبناني". لم يحدد مهلاً زمنية لنزع سلاح "حزب الله"، ما أراح أجواء ملتقيه، لكنه لم يقل ان المهل مفتوحة على الطريقة اللبنانية، وان سياسة الهروب إلى الأمام لا تزال تنفع. يقولها بصراحة "التذاكي اللبناني في خبر كان. وزمن الهيمنة الإيرانية انتهى إلى غير رجعة".
اليوم في حديثه، أكثر من تهديد واضح وصريح، يتكلم عن خطر وجودي، خطر "عودة" لبنان إلى بلاد الشام. وإذا كان الكلام يتنكر لحقائق وجودية وتاريخية، فإنه يعبر عن نظرة القوة التي تحكم العالم، وتلتقي مصالحها مع أفرقاء عدة في المنطقة. من مصلحة إسرائيل قبل سوريا، إقامة حزام أمني جنوباً ربما يتمدد لاحقاً، وأكثر للوصول إلى منابع مياه تطمع إسرائيل بها منذ زمن بعيد. وهي تضمن استيلاءها على جبل الشيخ من الجانبين السوري واللبناني، وهو منبع مياه، وموقع استراتيجي يطل على كل المنطقة.
أمّا سوريا، فيمكن أن تلاقي إسرائيل، بتعويض أراض تحتلها منها إسرائيل، وتجد متنفساً واسعاً، بل شاطئاً جديداً على البحر، كما قال برّاك، فتحوّل لبنان منتجعها الشاطئي. وهكذا، يتقاسم بلدان يعمّران السلام معاً، وبسرعة قياسية، الجغرافيا اللبنانية، برعاية اميركية، ويضمنان عدم قيام اي تحركات مسلّحة، او حتى سياسية مناهضة لمشروع الشرق الاوسط الجديد، ومسار السلام في المنطقة، ويقضيان على آخر ما تبقى من أذرع ايران في المنطقة العربية.
كلام برّاك، قد يكون غير واقعي، وقد لا يجد طريقه الكامل الى التطبيق، لان ثمة مخططات كثيرة تعثرت، لكن ايضاً يجب ألا يراهن اللبنانيون على فشل المخططات، لأن المضي بها ممكن ايضاً، وعندها لن ينفع الندم. ما هو المطلوب بإلحاح؟ المسارعة الى بناء مشروع الدولة وحصرية السلاح، وعبثاً يحاول "حزب الله" التملص من الخطة المطلوبة، لأنه يجرّ، وقد جرّ، البلد معه الى الخراب.
هل يذكر اللبنانيون اننا اليوم في 12 تموز، تاريخ انطلاق حرب العام 2006، وعبارة "لو كنت أعلم" الشهيرة. اليوم يقول لنا الاميركي جزءاً كبيراً من المشروع، فهل نتبنى سياسة الإنكار مجدداً، ونقول متأخرين "لو كنا نعلم".
(النهار اللبنانية)