اقتصاد ومال

الاقتصاد السِّياسي وواقع الأزمة الفِكريّة

سعيد علي نجدي

المشاركة

أحد أهمّ الشّروطِ في عمليّاتِ النُّهوضِ بالمُجتمعاتِ، هو التَّفكيرُ في الاقتصادِ السِّياسِي، لناحيةِ تنْميةِ القطاعاتِ الإنتاجيَّةِ وتحديثِها، من هنا لا يمكنُ الحَدِيثُ عن تنميةٍ طالمَا أنّ الميزانَ التِّجارِي للدُّول يبقى لصالِح الاسْتيرَاد، وفي نظرةٍ سريعةٍ على القطاعاتِ المُنتِجةِ في بلدانِنا العربيَّة، الّتي يتمُّ تَصدِيرُها إلى الأسواقِ العالميَّةِ، لا نرى سوى النَّفطِ والغاز، والذي لا يزال أيضًا يعتمدُ في عمليَّةِ الاستخراجِ لهذه المَوارِد على الشَّركاتِ الخَارجيَّةِ، وهنا المُفارقةُ أيضًا، لأنَّ ذلك سوف يلعبُ دورًا لناحيةِ الأسعارِ، المرتبطة أيضًا بسياساتٍ عالميَّة!

الاقتصاد السِّياسي وواقع الأزمة الفِكريّة

إذًا هذا يضعُنا أمامَ سُؤال، أين هي المشكلة؟ خصوصًا أنَّ بلدانَنَا العربيَّةَ طوالَ عقودٍ مِن الزَّمنِ كانَت أمامَ فُرصٍ، وبالأخص أنّ هذه البُلدان تَتَوَفَّرُ فيها شتَّى الشُّروط البَشريَّة، والكفاءات الفِكريَّة والعِلميَّة، وأيضًا المَوارد الطَّبيعيَّة. هل المشكلةُ في الدَّولةِ لناحيةِ النُّخَبِ الحَاكِمَةِ، أم أنَّ المشكلةَ هي في أزمةِ المجتمعات المَأزومَة ما بعد الاستعمار؟ وفي أنَّ هذه الدُّولَ الوطنيَّة لم تعْملْ على بَلوَرةِ مشروعٍ من الدَّاخِل، يعملُ على تحريكِ ديناميَّات الإنتاج، وبالتَّالي لكي يُصار لاحقًا إلى عمليةِ انفتاحٍ وربْطٍ بالسّوق العالميَّة، أي أنَّ الأزْمةَ هي أزْمة فِكر!.

ثنائية الدَّاخل والخَارج تُشكِّل أُولى أولويات التَّفكير بالاقتصاد السِّياسي

من هنا، أوَّلًا كيفَ يمكنُ الحديثُ عن الاقتصادِ العالمِي لدُولٍ لا تَملكُ من عمليَّاتِ الإنتاجِ والتَّصدير، سوى النَّفط، وهو القطاعُ المربوطُ بسياساتٍ عالميَّة، أي أنَّ تِلك الدُّولَ المُنتِجةَ هي التي تَتحكَّمُ بأسعارِ النَّفط، وبالتَّالي فإنَّ سياسةَ السّوقِ بطبيعةِ الحالِ تَستفيدُ منها الدُّول المُنتجة. وهنا نكونُ أمامَ متلازمةِ الدَّاخل والخَارج، وهذه الثُّنائيَّة تُشكِّل أُولى أولويات التَّفكير بالاقتصادِ السِّياسِي.

فمن ناحيةٍ، ما عُدْنَا قادرِين على الكلامِ اليوم عن اقتصادِ الحِمايَة، على غرار ما نَظَّرَ له الاقتصادي الألماني فريدريك لِيست (6 أغسطس/آب 1789 – 30 نوفمبر/تشرين الثاني 1846)، أي الحِمايَةِ من السِّلع الإنكليزيَّة، بغيّة التَّشجيعِ على تفجيرِ ثورةٍ إنتاجيَّةٍ في الدَّاخل، لأنَّ سياسةَ الانفتاحِ الجُمركي سوف تكونُ على حسابِ أسْواق الدّاخل، طالما أنَّ الاقتصادَ هوَ أشبَهُ بالطِّفلِ، لا بدَّ من بلوغِه سنّ الرُّشد حتَّى يُصارَ إلى إطلاقِ الانفتاحِ الجُمركي، هذه الوُجْهَةُ الإرشاديَّةُ في الاقتصادِ السِّياسِي مُهمَّةٌ لكِن اليوْم أصْبحَت الظُّروفُ صعبةً أكثر، أمامَ التَّحوُّلاتِ التي عَمِلَت عليها السّوق لاقتصاديّات المَرْكَز التي تَدْمُجُ أسواقَ الأطرافِ بِها، لأنَّ التَّداخُلَ بيْن البُنَى العالميَّة والدِّيناميَّات المحليَّة مُتداخِلَة لدرجةٍ أنَّها، كما وجدَ الاقتصاديَان في أميركا الجنوبيَّة (كاردوسو وفاليتو)، في أحْيان كَثيرَة كانت الاقتِصاديَّات الرَّأسماليَّة مسؤولةً عن تشكيلِ ودَمْجِ الأطرافِ غيْر الرَّأسماليَّةِ نظرًا إلى الفاعِل التَّاريخي، أي أنَّ المشكلةَ ما عادَت ترتبطُ بما نَادَى به المُفَكِّرُ سمير أمين وتحديدًا حوْل الانفصالِ، ونحن أمامَ تِكنولوجيا وذكاء اصطناعي يُشكِّلُ عتبةً أمام تحوُّلٍ كبيرٍ، وأنَّ العالميَّةَ الجديدَةَ لا يمكِن الرُّجوع عنْها كما عبَّر المفكِّر الألمَاني أولريش بيك، ولكن مِن ناحيةٍ أخْرى فإنَّ افتراضاتِ النَّظريَّات الكلاسيكيَّة لا يمكن أن تنطبقَ على بلدانِ الأطراف، لأنَّه يَتحدَّثُ من زاويةِ المرْكز.

استراتيجيَّة تصنيعِ بديلٍ من الاستيراد لها نتائج عالية لناحية نِسَبِ النُّمُوّ

وأمام ثنائيَّةِ المركزِ والاطْراف، يبرزُ أمامَنا المُفكِّر الأرجنتيني راوول بريبش (1901 – 1986)، أنَّه مِن نَاحيَة لا يمكِنُ تجاهُلُ اقتصادِيي المَرْكز، ومن ناحية أخرى لا يمكنُ تطبيقُ شروطِ المركزِ على الدَّاخل. من هنا تُصْبِحُ الإشكاليَّةُ هي في الأطرافِ، التي هيَ بحاجةٍ أوَّلًا إلى استقلالٍ فِكرِي، والقَفْزُ يكونُ من الدَّاخل أوَّلًا على صعيدِ طَريقةِ التَّفكير، وأهمّ شروطِ ذلك تجاوزُ ثنائيَّة: التَّنْمِيَة/التَّبَعِيَّة، أي الحاجَة أكثر إلى مضاعفةِ المَواردِ المحليَّة لتفكيرِنا، وهو ما يجعل من المَحلِّي يُصبح عالميًّا، لأنَّ تِلك النَّظريَّات الاجتماعيَّة، التي يَتمُّ إسقاطُها تفتقدُ إلى الاهتمامِ بالمكانِ وبالسِّياق المَادِّي، وخُصوصًا الأرض كما أشار عالم الاجتماع الأميركي جيمس كولمان (1925 – 1995).

من هنا، وبالعودة إلى بريبش، الذي كانَ أمينًا عامًّا لمنظّمة "سيبال" التي عارضَتْها الولايات المتَّحدة الأميركيَّة، كان تفكيره مُنصبًّا على كيفيَّةِ تنويعِ الصّادرات، لأنَّ سياساتِ عدمِ التَّدخُّل لم تستطِع التَّوَصُّل إلى حلّ، وإزَّاء هذا لفتَ إلى أهمِّيَّةِ الانطلاقِ من الدَّاخل، صوْب اسْتراتيجيَّةِ تصنيعِ بديلٍ من الاستيراد، والتي كانَ لها نتائجَ عاليةً لناحيةِ نِسَبِ النُّمُوّ، بعيدًا عن تَجربةِ جون كينز التي نقدَها بقوّة، بوصفِها لا يمكنُ أن تُشْبِهَ ما تَمرُّ به السّوق في أميركا اللّاتينيَّة، والتي وجدَ أنَّها لا يمكنُ أن تقومَ فقط على القِطاعِ الزِّراعي، وهو ما تحقَّقَ من خلالِ تقدُّم الصِّناعات في تِلك البُلدان، فبرأيِهِ احتفظَت المراكزُ بالفائدةِ الكاملةِ للتَّطوُّرِ التِّقني لصِناعاتِها، وهذا ما وضعَ بريبش في فُروقاتٍ فِكريَّةٍ مع منظِّري التَّخلُّف المَاركسيّين، لأنَّ الارتباطَ لا يمكِنُ فَكُّه، ولكِن يمكنُ إعادة تشكيلِه، إذا ما عَمِلَت الحكوماتُ بسياساتٍ تَدخُّليَّة من الدَّولةِ في مراحلِ البِناء، من خلالِ التَّعْرِفَاتِ الجُمركيَّة، وضَوابِط التَّبادُل، والضَّرائب، وتخطيطِ التَّنميةِ والسِّياساتِ المُضادَّةِ للتَّقلُّباتِ، وتخصيصِ رأسمالٍ للتِّكنولوجيا، من اجلِ إنتاجيَّةٍ أعْلى.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن