الأمن القومي العربي

الرّؤية الصّهيونيّة لحدود "إسرائيل" من مَنظورِ الأمن القومي العربي

ارْتَبَطَت الرُّؤْيَةُ الصُّهيونيَّةُ لحُدودِ "إسرائيل" بتَصوُّراتٍ سياسيَّةٍ وإيديولوجيَّةٍ تُرَكِّزُ على تحقيقِ أمنِ الدَّولةِ اليَهوديَّةِ وفَرْضِ سيطرتِها على مناطِق يَعتبرُها الصَّهايِنة جُزءًا من "أرضِ إسرائيل التَّاريخيَّة"، وهو ما يختلفُ اختلافًا جَذريًّا عنْ التَّصوُّر العَربي للأمْن القوْمي. فمِن منظورِ الأمْن القوْمي العَربي، تُعَدُّ هذه الرُّؤيَة تَهديدًا للحقوقِ الفلسطينيَّةِ والعَربيَّةِ وتَهْدُفُ إلى استِمرارِ الصِّراعِ وتقْويضِ الاستِقرارِ في المَنطقةِ خصوصًا أنَّ هذِه الرّؤيَة تُشَكِّلُ تَهديدًا مُتَعَدِّدَ الأبْعاد، يَتَراوحُ مِن التَّهديداتِ العَسكريَّةِ المُباشِرةِ إلى التَّهديداتِ الاقتصاديَّةِ والسِّياسيَّة.

الرّؤية الصّهيونيّة لحدود

الرُّؤيَةُ الصُّهيونيَّةُ للحدودِ تستندُ إلى فِكرةِ "الحُدودِ المُقدَّسةِ" و"أرضِ الميعاد" التَّوْراتيَّة كما وردَ في سِفر التّّكوين (15: 18) "من نهرِ مِصر إلى النَّهرِ الكبيرِ نهر الفُرات"، و"كلُّ مَوضِع تَدوسُهُ بُطونَ أقدامِكم لكم أعْطيتُه" (سفر يشوع 1: 3).

تستندُ الرُّؤيةُ الصُّهيونيَّةُ لحدودِ "إسرائيل" إلى مَفاهيمَ تاريخيَّةٍ ودينيَّةٍ مغْلوطَة، مُعتمِدةً على المَقولَة الشَّهيرة "إِكْذِبْ ثم إِكْذِبْ حتَّى يُصدِّقَك النَّاس"، حيثُ يَتبنَّى بَعْضُ المُنظِّرِين الصَّهايِنَة مفهومَ "أرضِ إسرائيل الكُبرى"، وهو يُعبِّر عن الأرضِ التي تشملُ فِلسْطِين التَّاريخيَّة بالإضافةِ إلى مناطقَ أخرى مثْل الضَّفَّة الغَربيَّة، وغزَّة، وبعضِ الأراضي السّورية (الجولان) والأرْدُنيَّة (شرق الأرْدُن)، باعتبارِها مرحلةً أولى مُقبلة يَتْبعُها مراحل أخرى؛ فالرُّؤية الصُّهيونيَّة ترى أنَّ حدودَ دولتِهم الحاليَّة التي استوْلوا عليها بالقوَّة لم تكُن النِّهايَة بل البِدايَة على حدِّ قوْل المُؤرِّخين اليَهود المُنْصِفين من أمثال بيني موريس وآفي شلايم وإيلان بابيه وشلومو ساند.

يرى مُنظِّرو الصُّهيونيَّة أنَّ في الحربِ الفُرَص الذَّهبيَّة لتوسيعِ حُدودِ "الدَّولة"

وتستخدمُ "إسرائيل" نُفوذَها في المَحافِلِ الدَّوليَّة، مثل الأمم المتَّحدة، لتعزيزِ مَصالحِها على حسابِ الدُّولِ العَربيَّة، إلى جانبِ الدَّعمِ الدّيبلومَاسِي الأميركي المُطْلَق لـ"إسرائيل" الذي يُعزِّز قُوَّتَها السِّياسِيَّة على السَّاحةِ الدَّوليَّة.

وترَى الرُّؤيَةُ الصُّهيونيَّةُ أنَّ "إسرائيل" تمتلك إمكاناتٍ عَسكريَّة وتِكنولوجيَّة مُتقدِّمَة، ممّا يسمحُ لها بالتَّفوُّق على العديدِ من الدُّول العربيَّة في مَجالاتٍ مُتعدِّدَة مثل التَّجَسُّسِ السِّيبْراني، والذَّكاء الاصطناعي، والطّائِرات من دون طيَّار. وهذا يُعزِّزُ قُدرتَها على تهديدِ الأمْنِ المَعلومَاتي والاقتصَادي للدُّولِ العَربيَّة.

ليْست الحقيقة هي ما يُهِم ولكنّ النّصر

كما يرى مُنظِّرو الصُّهيونيَّةِ أنَّ في الحربِ دائمًا الفُرَص الذَّهبيَّة لتوسيعِ حُدودِ "الدَّولة" لتَشْملَ ذات يوم من النّيل إلى الفُرات، فَيَذْكُرُ ديفيد بن غوريون في مقدِّمةِ الكتابِ السَّنوي لحكومةِ "إسرائيل"، عام 1952 أنَّ "الدَّولةَ قامَت على جزءٍ من أرضِ "إسرائيل" ولا بدَّ أن تتوسَّعَ عندما تُصبح قُوَّةً كافيَة". ما يعني أنَّه لم يكنْ مقتنعًا بأنَّ الحُلْمَ قد نُفِّذَ كامِلًا، بل كان هنالِك المزيد؛ أما مناحيم بيغن فقد صَرَّحَ سنة 1948 بأنَّ تقسيمَ أرضِ الآباء والأجْداد غيْر مشْروع، ولن يعترفَ به أبدًا، وأنَّ توقيعَ المؤسَّسات والأفرادِ عليه باطلٌ، ولن يُقَيِّدَ الشَّعبَ اليَهودي، وأنَّ أرضَ "إسرائيل" ستعودُ بالكامِل إلى شعبِ "إسرائيل".

الأمن القومي العربي يَتعرَّضُ للخطر نتيجةً لتَزايُدِ السَّيطرة "الإسرائيليَّة" على الأراضي الفلسطينيَّة

كما أنَّ مفهومَ "دولةٍ يهوديَّةٍ آمِنة"، عنصرٌ رئيسٌ في الرُّؤيَة الصُّهيونيَّة لحدودِ "إسرائيل"؛ إذ إنَّ هذه الحُدود ضَروريَّة لضمانِ أمْن الدَّولةِ اليَهوديَّةِ في مواجهةِ التَّهديداتِ الإقليميَّةِ من الدُّولِ العَربيَّة. وفي هذا السّياق، تعتقدُ "إسرائيل" أنَّ حُدودَها يجب أن تَتوسَّعَ لضمانِ الهيْمنةِ العَسكريَّة، ما يعني في كثيرٍ من الأحْيَان الاستيلاء على مَناطِق واسعةٍ من الأراضي الفلسطينيَّةِ والعَربيَّة كلَّما سمحت الظُّروف بذلك.

الرّؤية العربيَّة والأمن القومي العربي

مِن مَنظورِ الأمنِ القَوْمِي العَربي، فإنَّ الرُّؤيةَ الصُّهيونيَّةَ لحدودِ "إسرائيل" تُشَكِّلُ تَهديدًا مُباشرًا للأمن العربي والاستقرار الإقليمي، وأي تَوسُّعٍ "إسرائيلي" في الأرَاضِي الفلسطينيَّة يُعتبَرُ احتِلالًا وتَهديدًا للحقوقِ الفِلسطينيَّة. ومن هذا المُنطلقِ، يرَى العربُ أنَّ كلَّ عملياتِ الاستيطانِ "الإسرائيلي" في الضَّفَّة الغَربيَّة وشرق القُدس هي عملياتٌ غير شَرعيَّةٍ وتُعَدُّ انتِهاكًا صَارخًا للقانونِ الدَّولي ولحقوقِ الشَّعب الفلسطيني في تقريرِ مَصيرِه، وتَهدفُ إلى تَغييرِ الوَاقِعِ السُّكَّاني والجُغرافي.

والرُّؤيَةُ العربيَّة ترَى أنَّ الأمنَ القَومي يَتعرَّضُ للخَطرِ نتيجةً لتَزايُدِ السَّيطرةِ "الإسرائيليَّةِ" على الأراضي الفِلسطينيَّة، ما يُؤدِّي إلى تَوتُّراتٍ عَسكريَّةٍ مُستمرّةٍ وحُروبٍ مُتجدِّدة.

كما أنَّ الرُّؤيَةَ الصُّهيونيَّة التي تدعو إلى "أرضِ إسرائيل الكبرى" من وِجهةِ نظرِ الأمنِ القومي العربي تُعتبرُ تهديدًا مباشرًا للعديدِ من الدُّولِ العربيَّة، مثل: الأردُن وسوريا ولبنان والعراق ومِصر، فبالنِّسبة للعَربِ، يُعتبرُ هذا التَّوسُّعُ تَهديدًا لسيادتِهم وأمنِهم القومي.

وقد أدّى التَّناقُضُ بيْن الرُّؤيَة الصُّهيونيَّة لحدودِ "إسرائيل" وتَصوُّراتِ الأمن القومي العربي إلى سِلسِلةٍ من الحُروبِ والنِّزاعاتِ المُستمرَّة في المِنطقة، التي كان أحد أسبابِها الرَّئيسَة مسألة الحُدود. والحروبُ التي نَشبَت بين العرب و"إسرائيل" في 1948، و1956، و1967، و1973، كانت تتعلَّق في جزءٍ كبيرٍ منها بمحاولةِ العَرب استعادة الأرَاضي التي احتلّتْها "إسرائيل"، والتي كانَت من أهمّ مصادِر تهديدِ الأمن القوْمي العربي.

محاولاتُ التَّسوية وطُرُقُ المواجهة

من وجهةِ نظرِ الأمنِ القومي العَربي، فإنَّ أي حلّ للحدودِ يجِب أن يشمل: الانسِحاب "الإسرائيلي" من الأرَاضي المُحتلّةِ وإقامة دولة فلسطينيَّة مُستقِلّة تحت سِيادةٍ فِلسطينيَّةٍ كَاملةٍ على الأراضي المُحتلّة، بما في ذلك القُدس الشَرقيَّة. والاعترافُ بحقوقِ اللّاجِئين الفِلسطينيّين وضمان حقِّ العَودةِ وفقًا لقراراتِ الأممِ المتَّحدة، وبخاصة القرار 194 الذي يُعطي اللّاجئين الفلسطينيّين بقوَّةِ القانونِ الدَّولي حقَّ العودةِ إلى ديارِهم وقُراهُم في 1948.

رسْم خريطة شرق أوسط جديد باتَ أقرب للتَّطبيق ولا بُدَّ مِن التَّعاون الأمني العربيّ لمواجهة التَّوسُّع "الإسرائيلي"

هكَذا يبْدو واضحًا للعَيَان أنَّ إعادةَ ترتيبِ موازينِ القِوى ورسْمَ خريطة شرق أوسط جديد للمنطقة باتَ أقرب للتَّطبيقِ من أي وقتٍ مضَى في ظلِّ التَّطوُّراتِ المُتَسَارِعَة. ومن ثُمَّ لا بُدَّ مِن الدَّعم السِّياسِي والدّيبلوماسِي للفلسطينيّين وتَوحيدِ الصُّفوفِ لدعمِ حقوقِ الفلسطينيين في المَحافلِ الدَّوليَّة، مثل الأمم المتَّحدة ومُنظَّمة التَّعاون الإسلامي. وتعزيز التَّحالفَاتِ العسكريَّةِ بخاصّة في مواجهةِ أي تهديداتٍ "إسرائيليَّة" مُحتمَلةٍ ضدَّ أي دَولةٍ عربيَّة، بِمَا في ذلك التَّعاوُن الأمْني بين بعض الدُّولِ العربيَّة لمواجهةِ التَّوسُّعِ "الإسرائيلي". هذا إلى جانبِ تَفعيل المُقاطَعة الاقتصاديَّة والسياسِيَّة والدّيبلوماسيَّة ضدَّ "إسرائيل"، وتأييد حَملاتِ المُقاطَعةِ العالميَّة ضدَّ مُنتجاتِ المُستوطَناتِ "الإسرائيليَّة".

إنَّنَا نحتاجُ في الفترةِ الحاليَّةِ إلى تَضافُرِ الجُهودِ العربيَّة لمُواجَهةِ تِلك الرُّؤيَة المُدَمِّرَة لنا جَميعًا، بعيدًا عن حُدودِ التَّوْصيفِ الخَارِجي السَّطْحي لَها والشَّجْبِ الذي لا طَائِلَ مِن وَرائِه.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن