على الرَّغم مِن تأسيسِ مجلسِ الوِحدةِ الاقتِصاديَّة العَربيَّة في 3 يونيو/حزيران 1957 في القَاهرة، فإنَّ الرَّكب ما زال مُتوقِفًا منذُ تأسيسِ ذلك المَجْلس، ومع تقديرِ كافَّة الجهودِ المبذولةِ لتَطويرِ صِيَغِ التَّعاوُن العَربي البَيْنِي، فإنَّه يَتعَيَّنُ علينا البحث في أسبابِ إخفاقِ الدُّولِ الأعضَاء مِن دون التَّوصُّلِ إلى صِيغةٍ مُستهدفَةٍ للتَّكامُل الإقليمِي. كما يَنبغِي دراسةُ مُبرِّراتِ عزوفِ عددٍ من الدُّولِ العَربيَّة عن الالتِحاقِ برَكْبِ مَجلسِ الوِحدةِ عينِه، علمًا أنَّ دُوَلَ الفائضِ في رأسِ المَال ما زالت غَائبَةً عن التَّشكيلِ، وهو ما يُعزِّز من إخفاقِ تَجارِب التَّكامُل.
أهدافُ التَّكامُل الاقتصادي
لأنَّ الدُّوَل المُنتميَة إلى إقليمٍ مُعيَّن تَسعَى من وراءِ تكوينِ تَجمُّعٍ إقْلِيمِيٍ فيما بيْنها إلى تحقيقِ غَاياتٍ مُتشابِهةٍ، تَدورُ مع معالجةِ مشكلاتٍ ذات طبيعةٍ مُتماثلَة، على نحوٍ يُساعدُها على تحسينِ أوْضاعِها، وتفادِي نزاعاتٍ تَحُول دونَ اسْتِتْبَابِ السَّلامِ فيما بيْنها، فقد يَتوقَّفُ هذا التَّجمُّعُ عندَ حدِّ التَّعاوُنِ على حلِّ القَضَايَا أو بُلوغِ الأهدافِ ذاتِ الطَّابَع المُشتَرَك، كما يحدثُ الآن بيْن كثيرٍ من الدُّوَلِ العَربيَّة. أو قد يتَّخِذُ ذلك التَّجمُّع شَكْلَ تَكامُلٍ إقليمِي، يتناولُ تَطويرًا للعَلاقاتِ البيْنيَّة إلى أن يَصِلَ إلى حدِّ الاندِماجِ التَّام أو الوِحدةِ الاقتصاديَّة، والّذي تقدَّمَت فيه مجموعةُ الدُّول الأعضَاء في مَجلسِ التَّعاوُن الخَليجي إلى حدٍّ ما، وإنْ ظَلّت بعيدةً عن نَموذجِ الاتِّحادِ الأوروبي، الذي تمكّنَ من إصدارِ عملةٍ مُوحَّدةٍ وتأشيرةِ دُخولٍ مُشتركَة.
الإقليميَّة الجديدة لا تَطمحُ إلى تكوين وحدة اقتصاديَّة تذوبُ فيها القَوْميَّات وتتلاشى فيها الحدود بين الدّول
وإذا كانت التَّبايُنَات في القُدراتِ الاقْتصاديَّة وقَواعِد تقسيمِ العملِ الدَّولي قد حالَت دونَ تحقيقِ المَكاسِب من حُرِّية التَّبادُل التِّجارِي العَالمي، مما عانَت منه الدُّول النَّامِيَة وحَرَمَهَا من الحُصولِ على نَصيبٍ عَادلٍ من رأسِ المال، فإنَّ الإقليميَّة الجَديدَة تُمَهِّدُ لصيغةٍ مُختلفَةٍ تَجْمَعُ بيْن التَّعاوُن والتَّكامُل من نَاحِيَة، وبيْن دُولٍ مُتفاوِتَةٍ في مَراحِل ومُعدَّلات النُّمُوّ، بلْ وفي قَواعدِها الثَّقافيَّة والاجتماعيَّة من ناحيةٍ أخرى. لكنَّ الإقليميَّةَ الجَديدَة تقفُ عندَ حدِّ إقَامةِ مَناطِق حُرَّة للتِّجارَة، وتَسْمَحُ بِحُرِّيَةِ حركةِ رؤوسِ الأموال، ولا تَطمحُ إلى تكوينِ وِحدةٍ اقتصَاديَّةٍ تذوبُ فيها القَوْمِيَّات وتَتَلاشَى فيها الحُدودُ بيْن الدُّول.
التَّحوُّلات الاقتصاديَّة العالميَّة كحافزٍ للتَّكامُل
من الواضِحِ أنَّ العَالَم يَشهدُ حاليًّا تحوُّلاتٍ اقتصاديَّةً كُبرى ستؤثِّر بشكلٍ هَيْكَلِي على مُختلفِ المُتَغَيِّرَاتِ الاقتصَاديَّة. عواملُ مِثْل تَغيُّر المُناخ، وتَراجُع العَوْلمَة، والحُروب التِّجاريَّة، والقُيود على حَركةِ العَمالَة، وتَحدِّيات تَغَيُّر المُناخ، والدَّوْلَرَة العَكْسِيَّة، وتَحوُّل الصِّين نحو نموذجِ نُموٍّ جَديدٍ يُركِّز أكثر على الأسواقِ المَحلِّيَّة بدلًا من الصَّادِرَات... كلّ هذه العَوامِل تساهمُ في أزْمةٍ طَويلَة الأَمدِ على جَانبِ العرْض. ستُقلِّل تِلكَ الأزْمة من تَوَفُّرِ الأمْوالِ الرَّخيصَة وأسعارِ الفَائدَة الصِّفريَّة لفترةٍ مُعتبرةٍ، بيْنما تَرْفَعُ مِن مُعدَّلاتِ التَّضَخُّمِ المُستَهْدفَة. من المُهمِّ مُلاحظَةُ أنَّ الأَزمَات النَّاتِجَة عن الحَربِ الرّوسيَّة - الأوكْرانيَّة وجَائِحَة كوفيد-19 من المُرجَّح أن تستمرَّ في التَّأثيرِ في الاقتصادِ العَالمِي في المَدَى القَصيرِ على الأقلّ.
المشروع الإقليمي الرَّائد للتَّكامُل الاقتصادي يَتضمَّن اقْتفاءَ خُطَى تأسيس الاتِّحاد الأوروبي
تَتَطَلَّبُ تِلك التَّحوُّلات الهَيْكليَّة الاستثنائيَّة تَنفيذَ تدابيرَ مُحدَّدَة، بما في ذلكَ استِكشَاف جميع أشكالِ التَّرتيباتِ الاقتصاديَّة الإقليميَّة المُمْكِنَة.
الأشْكالُ المُمْكِنَة للتّرتيبَاتِ الاقتصاديَّة الإقليميَّة
يمكنُ أنْ تَتَّخِذَ التَّرتيباتُ الاقْتصاديَّةُ الإقْليميَّة أشكالًا مُختلفَة، بما في ذلك:
- ترتيباتُ التّجارة التَّفْضيليَّة: تتضمَّن هذه التَّرتيباتُ تَمتُّع الشُّركَاء التِّجاريّين الإِقْليميّين بشُروطٍ تِجاريةٍ أكثرَ تَفْضيلًا، مثلَ تخفيضِ الرُّسومِ الجُمْركيَّة، مُقارنةً بالدُّول الأخرى.
- مِنطقة التّجارة الحُرَّة: لا تخضعُ التِّجارةُ داخلَ تِلك المِنطقةِ للضَّرائِب، ولكنَّ الرُّسومَ الجُمركيَّة الخارجيَّة على الأطرافِ الثَّالثَة قد تختلفُ بيْن الدُّولِ الأعضَاء.
- الاتِّحاد الجمركي: حيثُ يَتمُّ تطبيقُ تَعريفةٍ خارجيَّةٍ مُشتركَة، ويَتطلَّبُ ذلكَ عُمومًا أن يتعاملَ جميعُ الأعضاءِ مع الشُّركَاء الاقتِصَادِيّين غير الإقليميّين بطَريقةٍ مُماثِلَة.
- السّوق المُشتركَة: حيثُ تَتدفَّقُ التِّجارَة في السِّلعِ ورؤوسِ الأموالِ بِحُرِّيَةٍ داخل المِنطقة، ويتمُّ توحيدُ شروطِ السّوق بما في ذلك المَعايير، بحيث لا يُواجِه المُنتجِون في بَلدٍ واحدٍ قُيودًا غَيْرَ سوقيَّةٍ عندَ البيْع في بُلدان أخرى داخلَ السّوق المُشترَكة. كما يتمُّ تقليلُ القُيودِ على تَدَفُّق العَمَالَة.
- الاتِّحاد الاقْتصَادي: حيثُ يَتشاركُ الأعضاءُ في نهايةِ المَطافِ عملةً وَاحدَة. يتمُّ إلغاءُ مَفهومِ الإقامةِ الوطنيَّةِ في جميعِ العلاقاتِ الاقتصاديَّة من خلالِ مبدأَيْن رَئيسَيْن: الاعتراف المُتبادل والحدّ الأدْنى من التَّوحيد.
- المَشروع الإقْليمي الرَّائِد للتَّكامُلِ الاقتصادي: يَتضمَّنُ هذا المشروعُ اقْتفاءَ خُطَى تَأسيسِ الاتِّحادِ الأوروبي، الَّذي نَشَأَ من كِيانٍ أُطْلِقَ عليه "الجَماعة الأوروبيَّة للفَحْمِ والصّلْب".
المشروع القَاطِرة يجب أن تتوافرَ فيه مَزايا الحَجْم الكبير
ونَظرًا لطبيعةِ التَّدفُّقِ المَعلومَاتي وسُرعةِ التَّراكُمِ المَعْرِفِي التي يمتازُ بها عصرُنا الرَّاهن، ونظرًا لعَجْزِ التَّجارِبِ السَّابقةِ المُؤَسَّسَةِ على دِراسةِ فُرصِ التَّكامُلِ العَربي على أسُسٍ من التَّقسيم القِطاعِي للنَّشاطِ الاقتصَادي، فإنَّ المنهجَ الأكثرَ مُرونةٍ والأسرعَ نفاذًا إلى الهدفِ يُمكنُ تأسيسُه على "المَشروعاتِ القَاطِرَة". وأعني بذلك مُشاركَة الدَّولَةِ ومُمثّلي القطاعِ الخاصّ بالدُّول الأعضَاء في إطلاقِ عددٍ من المَشروعاتِ الإقليميَّةِ الكُبرى المُشتركَة، التي تَصْلُحُ قاطِرةً للنُّموِّ الاقتصادي بمجموعةِ الدُّولِ المُساهِمةِ فيها، وتصْلُح أيضًا كدعامةٍ لتوْسيعِ نطاقِ التَّعاوُن الاقْتصَادِي الإقْليمي على نَحْوٍ مُتَكَافِئ.
المَشروعُ القَاطِرةُ يجبُ أن تتوافرَ فيه مَزايا الحَجْمِ الكبير، من حيْث عناصِر الإنتاجِ المُختلفةِ وفي مُقدِّمتِها العَمَل ورَأس المال. ويمتازُ أيضًا بكوْنِهِ يُوظِّف المَزايَا النِّسبيَّة للدُّول المُساهمة على نحوٍ فعَّالٍ ومُتَّزِنٍ إلى أقصَى حدٍّ مُمْكِن، وأن تَتشابكَ في إطارِه سلاسلُ الإمدادِ بشكلٍ يَسمحُ بتكوينِ شَبكاتٍ عُنقوديَّةٍ من المَشروعاتِ القَاطِرَة، حتّى تصيرَ في مُجْمَلِهَا كِيانًا إقليميًّا كبيرًا يفوقُ في حجْمِهِ اقتصَادات كثيرٍ من الدُّول.
وفي مقالِ مُقبل يمكنُ بَسطُ عددٍ من المَشروعاتِ الإقليميَّةِ المُرشَّحةِ لتَحريكِ سلاسِل الإمدادِ العربيَّةِ نحوَ تحقيقِ مزيدٍ من التَّكامُل الأفُقِي والرَّأسِي في عددٍ من المَجالات، إلى جانبِ دِراسةِ مُعوِّقات التَّكامُل الاقتصادي العَربي في الوقتِ الرَّاهِن.
(خاص "عروبة 22")