في تطورٍ فاق كل التوقعات وشكل تغييراً جذرياً في المشهد اللبناني، وقلب المعادلات التي كانت تُرسم سابقاً على وقع الاصطفافات والتحالفات السياسيّة والطائفيّة الضيقة، التي أنهكت البلاد وزعزعت ثقة الخارج وحولت لبنان الى دولة منبوذة في محيطه العربي، أتت نتائج الاستشارات النيابية المُلزمة في القصر الجمهوري بحصيلةٍ نهائيّة أفضت إلى تكليف رئيس محكمة العدل الدولية القاضي نواف سلام برئاسة الحكومة الأولى لعهد الرئيس جوزاف عون بـ 84 صوتًا، مقابل 9 للرئيس نجيب ميقاتي، و35 لا تسمية (شملت كتلة "الوفاء للمقاومة"، كتلة "التنمية والتحرير"، "التكتل الوطني المستقل" الى جانب النائبان جميل السيد والياس أبو صعب).
هذه النتائج التي أتت لتؤكد "النفحة" التغييرية التي واكبت وصول الرئيس جوزاف عون الى سدة الرئاسة بعد سنتين من الشغور الرئاسي تعكس مشهداً مغايراً للأعراف التي كرستها القوى السياسية اللبنانية على مدار سنوات طوال، ما يمنح لبنان الدولة فرصة فريدة للإنقاذ والسير بركب الاصلاحات التي سبق وتضمنتها كلمة رئيس الجمهورية في خطاب القسم، لاسيما أن كثيرين ينظرون إلى سلام، بناء على سيرته الذاتية وتجاربه والمحطات الهامة التي واكبها، على أنّه شخصيّة إصلاحيّة مستقلة، تملك رصيداً دولياً وتفوقاً أكاديمياً، ما يجعله شخصية قادرة على انتشال لبنان من كبواته وأزماته التي تعاظمت في السنوات الاخيرة.
هذا المشهد "التغييري" الذي خطته الكتل النيابية والتي تضم السنّة والدروز والمسيحيين، غاب عنه المكون الشيعي الذي رفض تسمية أحد لتولي الحكومة، معتبراً ما حصل بأنه "انقلاب" على اتفاق سابق وهو ما عبّر عنه رئيس كتلة "الوفاء للمقاومة" النائب محمد رعد من القصر الجمهوري، حين قال: "خطونا خطوة إيجابية عند انتخاب رئيس الجمهورية وكنا نأمل أن نلاقي اليد التي لطالما تغنت بذلك وإذ بها قطعت". وأكد أن "من حقنا أن نطالب بحكومة ميثاقية وأي حكومة تناقض العيش المشترك لا شرعية لها".
ويشكل "الفيتو الشيعي" الذي يسبق "معضلة" تأليف الحكومة عائقاً امام سرعة التشكيل التي يعول عليها لبنان لمواجهة الاستحقاقات الكبيرة التي تواجهه وعلى رأسها إعادة الإعمار بعد الحرب الاسرائيليّة الإخيرة والنهوض بالبلد اقتصادياً ومالياً. وفي هذا الصدّد، تمنى رئيس الجمهوريّة جوزاف عون، في أول موقف له بعد التكليف "أن يكون التأليف سلسًا وبأسرع وقتٍ لأن فرصًا كبيرةً تنتظرنا". وتزامن هذا التصريح مع سلسلةٍ من المواقف الداخلية والخارجية التي رحبت بخطوة اختيار سلام في ظل الظروف الراهنة.
وفي أولى المواقف الخارجية، هنأ الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون القاضي سلام على تكليفه، متمنياً له "كل النجاح في تشكيل حكومة تخدم جميع اللبنانيين"، وقال: "بعد انتخاب الرئيس جوزاف عون يتزايد الأمل في التغيير في لبنان". وترافقت هذه الاستشارات مع زيارة يقوم بها الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط الذي تمنى أن "تُستكمل أعمدة الدولة اللبنانية، ومع استكمال هذه العناصر يكون لبنان معداً لانطلاقة جديدة لتسوية وتصفية الكثير من المشاكل التي أعاقته على مدى سنوات"، وفق تعبيره.
هذا وناقش أعضاء مجلس الأمن، خلال جلسة مغلقة عقدوها أمس، الوضع في لبنان ومتابعة تنفيذ اتفاق وقف النار، وسط ترحيب بانتخاب قائد الجيش جوزاف عون رئيساً للجمهورية وتكليف رئيس محكمة العدل الدولية نواف سلام تشكيل حكومة جديدة، فيما قرر الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش زيارة بيروت إستجابة لدعوة تلقاها أخيراً.
وتأتي التطورات اللبنانية مع مستجدات "ايجابية" على صعيد مفاوضات وقف النار في غزّة، حيث كشفت مصادر مطلعة مصرية لـ"العربي الجديد" أن القاهرة شهدت، الاثنين، لقاءً مصرياً إسرائيلياً أميركياً حول ترتيبات محور صلاح الدين "فيلادلفيا"، ومعبر رفح البري بين مصر وقطاع غزّة الفلسطيني، فيما كشف مصدر مسؤول في حركة "حماس" تسلم مسودة اتفاق وقف إطلاق النار من الوسطاء.
ووفقاً لما نقلته وكالة "رويترز"، يتضمن الاتفاق المرتقب عدداً من النقاط أبرزها: إطلاق سراح 33 محتجزاً إسرائيلياّ في غزّة منهم أطفال ونساء ومجندات ورجال فوق الـ50 وجرحى ومرضى. واذا سارت الأمور على النحو المُخطط لها، ستبدأ مفاوضات بشأن مرحلة ثانية في اليوم الـ16 من دخول الاتفاق حيّز التنفيذ. وخلال المرحلة الثانية، سيُطلق سراح باقي المحتجزين الأحياء، ومنهم الجنود والرجال في سن الخدمة العسكرية، فضلا عن إعادة جثث القتلى منهم. وفي مقابل إطلاق سراح كل محتجز إسرائيلي، ستفرج تل أبيب عن عدد من الأسرى الفلسطينيين، من بينهم أصحاب أحكام طويلة.
من جهته، اعتبر مستشار الأمن القومي للبيت الأبيض جيك سوليفان، أن صفقة وقف إطلاق النار "أقرب للإنجاز من أي وقت منذ بدء المفاوضات العام الماضي". وقال: "نحن الآن في نقطة محورية لم نصل إلى الموقف الذي نحن فيه اليوم من قبل، وأعتقد أن هناك سببين لتضييق الفجوات، أن إسرائيل حققت أهدافها العسكرية الكبيرة في غزة، وأن حماس عانت من خسائر كارثية على مدار الصراع. وبالتالي، نعتقد أن الوقت مناسب للحصول على صفقة وإغلاقها".
وبحسب صحيفة "يديعوت أحرونوت"، فإن الرئيس الأميركي المُنتخب دونالد ترامب يرمي إلى وقف الحروب في الشرق الأوسط وأوكرانيا، ولديه طموح جدي للحصول على جائزة نوبل للسلام. وأكدت المصادر أن ترامب ينوي منح "رزمة هدايا" لليمين الإسرائيلي، مقابل عدم إجهاض الصفقة، وذلك بالسماح له ببناء كمية غير عادية من الوحدات السكنية في المستوطنات، وإلغاء العقوبات التي فرضتها إدارة الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن على قادة المستوطنين المتطرفين. فيما ذكرت القناة "12" العبرية، إن ترامب طلب من إسرائيل "الهدوء في الشرق الأوسط"، حتى يتمكن من التركيز على القضايا الداخلية.
في الشأن السوري، دعت 6 دول أعضاء في الاتحاد الأوروبي (ألمانيا، فرنسا، هولندا، إسبانيا، فنلندا، والدنمارك) إلى تعليق مؤقت للعقوبات التي يفرضها الاتحاد على سوريا، تشمل عدة قطاعات مثل المصارف والطاقة والنقل. وسيناقش وزراء الخارجية في الاتحاد الأوروبي تخفيف العقوبات المفروضة على سوريا، خلال اجتماع يُعقد في بروكسل في 27 كانون الثاني/يناير الجاري. في المقابل، أكد وزير الخارجية الكويتي عبد الله اليحيا أن إعادة فتح سفارة بلاده في العاصمة السورية دمشق "ستتم قريباً جداً". وجاء ذلك مع تواصل تدفق المساعدات الإغاثية إلى سوريا التي تعاني من أوضاع اقتصادية صعبة للغاية، جراء الحرب التي أنهكت البلاد ودمرت كافة مقوماتها على مدار 13 عاماً.
على صعيد آخر، أعلن الكرملين أن روسيا وإيران ستوقعان معاهدة "شراكة استراتيجية شاملة"، يوم الجمعة المقبل، خلال زيارة يقوم بها الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان إلى موسكو. وأوضح الكرملين، أنه بالإضافة إلى توقيع الاتفاق، يعتزم الرئيسان مناقشة "الآفاق المستقبلية للتعاون الثنائي، بما في ذلك في مجالات التجارة والاستثمار والنقل واللوجستية والعمل الإنساني، فضلاً عن مواضيع محدّدة على الأجندة الإقليمية والدولية". ويأتي إعلان الكرملين، فيما تجري طهران محادثات حول برنامجها النووي، مع فرنسا وألمانيا وبريطانيا، تستضيفها سويسرا، وذلك قبل أسبوع من عودة الرئيس ترامب إلى البيت الأبيض.
وطغت على الصحف العربية الصادرة اليوم القضايا الطارئة ولاسيما المشهد اللبناني والتطور السوري وصولاً إلى إمكانية الوصول "الجدي" لوقف النار في غزّة. وفي جولة اليوم نرصد:
تناولت صحيفة "عكاظ" السعودية التغيرات السورية حيث وصفت ما حصل بـ"الانجاز الكبير الذي حققته المعارضة السورية بقرارها حسم المعركة مع نظام الأسد بالقوة. والإنجاز الأكبر أنها أظهرت حقيقة أنها لم تكن قليلة الخبرة في إدارة شؤون الدولة الداخلية والخارجية". وتابعت: "وأثبتت (المعارضة السورية) للمسكون بخلفيتها الأيديولوجية السابقة أنها نجحت في إحداث تغييرات جوهرية في قيمها وسلوكها؛ لتتلاءم مع مرحلة حكم دولة قومية حديثة لا يتردد العالم في القبول بها والتعاون معها".
أما صحيفة "الوطن" البحرينية، فقد اعتبرت أن "ما حدث خلال الشهور الأخيرة هو سقوط مدوٍ لأعمدة إيران في المنطقة والبقية تتحسس لحاها الآن قبل 20 كانون الثاني/ يناير يوم تسليم ترامب السلطة"، وأضافت "اليوم يوم العودة للحضن العربي هو عنوان المرحلة التي نعيشها الآن، والتي لم نكن نتوقع أن تحدث ونشهد عليها بعد 40 عاماً من الاستلاب والاحتلال والخداع والفتن الطائفية، وعزلة وتقسيم الشعوب وسلب مقدراتهم في أربع عواصم عربية وزعزعة عواصم أخرى، وها هم يعودون الواحد تلو الآخر وتفتح لهم الأذرع العربية فرحة بعودة أبنائها".
هذا ورأت صحيفة "عُمان" العمانية أن "النجاح في تحقيق التوافق الوطني حول انتخاب جوزاف عون رئيسا للبنان بمثابة ميلاد جديد للبنان ويوم تاريخي طالما تطلع اللبنانيون إلى الوصول إليه مع الحفاظ على كل مقدراته ودون خسائر قد تؤثر على حاضره ومستقبله وعلى طابعه المميز لدى كل عربي، معربة عن تفاؤلها بـ "ما تضمنه خطاب القسم للرئيس عون بما يبعث في الواقع على الارتياح برغم الكم الكبير من المشكلات التي يجد عون نفسه في مواجهتها".
وتساءلت صحيفة "الأهرام" المصرية عما "جناه لبنان من تبديد عامين وأربعة أشهر دون أن ينتخب رئيس على الرغم من أن اسم العماد جوزاف عون كان مطروحا منذ البداية"، وأردفت "هل كان ينتظر مأساة الحرب مع إسرائيل وما تعرض له لبنان من تدمير؟ أم تدخل المجتمع الدولي؟ حتى الآن لا يملك أحد الإجابة المقنعة عما جرى والتي بسببها تأخر انتخاب الرئيس وظل البلد دون رئيس طوال هذه الفترة".
وتحت عنوان "مفاوضات الأمتار الاخيرة"، كتبت صحيفة "الخليج" الإماراتية "هذا التبدل المفاجئ في المفاوضات الخاصة بغزّة، وتخلي بنيامين نتنياهو عن محاولات العرقلة، سببه أن الضغوط الأمريكية ازدادت عليه للتوصل إلى الصفقة مهما كان الثمن"، مشيرة الى أن "الإدارة الأمريكية الجديدة لديها ملفات أمنية أخرى أكثر أهمية، وأن الحرب الإسرائيلية على غزة تحولت إلى حرب استنزاف للجيش الإسرائيلي.. والأهم أن حكومة نتنياهو لا تستطيع الإضرار بالعلاقات مع إدارة ترامب لأنها ستحتاجها مستقبلاً في قضايا إقليمية أخرى".
من جهتها، أكدت صحيفة "الراية" القطرية أن "الدوحة تشهد حراكاً دبلوماسياً مكثفاً من أجل وقف العدوان الإسرائيلي الوحشي ووقف حمام الدم في القطاع المنكوب". وقالت: "نحن نستبشر باقتراب انتهاء الأزمة بعد الاتّفاق على أغلب تفاصيل الهُدنة، حيث كانت الدوحة تقود خلال الساعات الماضية تحركات دبلوماسية أسفرت عن تقريب وجهات النّظر، ومن المفترض إعلان الاتّفاق خلال ساعات، بناء على المؤشرات الإيجابيّة في الدوحة، والعواصم المُنخرطة بالأزمة".
(رصد "عروبة 22")