لفَهْمِ جُذورِ هذِه الأزْمَة يجبُ مُلاحظةُ أنَّ التَّدَهْوُرَ الاقتصَادي العَربي هو جزءٌ مِن تدهورٍ واسِعِ النِّطاقِ لمَناطِق الحضَاراتِ القَديمةِ الثَّرِيَّةِ تَقليديًّا، فمنذُ نهايةِ القرنِ السادسِ عشَر بدأَت تَتَّسِعُ الفَجْوَةُ بيْن شمال غرب أوروبَّا وبيْن بقيَّة العَالم بما فيه جنوب وشرق أوروبَّا.
ليَدخُلَ العالمُ القرنَ العِشرين ونادي الدُّوَلِ الغنيَّةِ يَقتصرُ على أميركا الشَّمَاليَّة وشمال غربِ أوروبَّا مع وجودِ اسْتِثْنَاءَيْن هما اليابان وجُزْئيَّا روسيا (التي كانَت تجمعُ بين الفَقْرِ وبَعْضِ التَّقدُّمِ وقوَّةٍ عسكريَّةٍ هائِلَة).
ولكن في الثَّلاثِين عامًا المَاضِيَة بدأت دولٌ كثيرَةٌ تمتدُّ من شرقِ وجنوبِ أوروبا إلى شرقِ وجنوبِ شرقِ آسيا وحتَّى بعْض دولِ جنوبِ آسيا وأميركا الجَنوبيَّة تَخْرُجُ من رِبْقَةِ التَّأَخُّرِ الاقتصَادي والحَضَاري، بينما العَالمُ العَربي، الذي كانَ يبدو واعدًا بعد الاستقلالِ مُقارنةً بأغْلَبِ دُولِ العَالمِ الثَّالِث، يَتَعَثَّرُ عن ذي قبْل.
إنَّ فهْمَ جذورِ هذا الوَضعِ يحتاجُ إلى قِراءةِ البنْيةِ الاجتماعيَّةِ والسِّياسِيَّةِ التَّاريخيَّةِ للدُّولِ العَربيَّة.
فتحَ العرب بلادًا لم يَعْرِفُوا أسماءها ناقِلين العُطور والبهَارات والنَّباتات والأفكار في عَوْلَمَةٍ مُبَكِّرَة
العالمَ العَربي الحَديثَ هو نتيجةُ امتزاجِ الفَاتِحين العرَب المُسْلمين بأبْناءِ عُمُومَتِهِم مِن سكَّانِ الشَّرقِ الأوْسَط وشمالِ أفريقيا القدامى.
فلقد نَشأَت الحضَارةُ العَربيَّةُ مِن تَزَاوُجِ العَرَبِ الفَاتِحين بِدينَامِيكِيَّاتِهم اللَّافِتَةِ مع سكَّانِ المِنطقةِ العَربيَّةِ القُدامى الّذين احْتَفَظُوا بِبَقِيَّةِ إرْثِ حضَاراتِ الشَّرقِ القديمِ على الرَّغمِ من الاسْتِعمارَيْن الفارِسي والبيزَنطي، وسُرْعَانَ ما نَشَأَت حَضَارَةٌ مُنفتِحةٌ وَاثقةٌ من نَفسِها لم تقصر جُهْدًا في تَبَنّي أسَاليبِ الحضَاراتِ القَديمةِ ومَزْجِهَا بإرْثِها الخَاصّ بحيثُ تبدو جرْأةُ الحِوارَاتِ في تِلك الفَترةِ في قضَايا السِّياسةِ والفلسفةِ والدِّينِ صادمةً للعَربِ المُحَدِّثِين، وكانَت سُلطةُ رِجالِ الدِّينِ أقلَّ تأثيرًا في عصورِ الإسلامِ الأولى في الأغْلبِ من العُصُورِ اللَّاحِقَة.
وكُنَّا أمامَ مُغامرةٍ عربيَّةٍ كُبْرى تَكتسبُ جُرْأتَها من الطَّبْعِ العَربي البَدَوي المِقْدَام، ففتحَ العربُ بِلادًا لم يَعْرِفُوا أسماءها قبلَ عُقود ودَمَجُوا سكَّانَها وقِيَمَهُم في مَنظومةٍ واسعةٍ وترْجَموا كُتُبَ فَلاسِفةِ اليونان وسَاسةِ الفرْس وحُكمَاء الهند على وَثَنِيَّتِهِم من دونِ َتردُّدٍ وجَابَ التُّجَّارُ العَرَبُ أصْقاعَ العالمِ البَعيدةِ مُتَزَوِّجِين من نِسَاءِ هذه البُلدانِ ناقِلين العُطور والبهَارَات والنَّبَاتَات والأفكار في عَوْلَمَةٍ مُبَكِّرَةٍ، وكتَبوا في الفِقْهِ واللّغَةِ والفَلسفةِ والعُلومِ الطَّبيعيَّةِ من دونِ وَجَل، مُقَدِّمين ابتكاراتٍ ما زَالت تُثيرُ إعجابَ البَاحِثين الغربيّين المُحدِّثين كما يُثيرُ توقُّفَها حيرتَهم.
لكِن يبدو أنَّ كلّ تَقدمٍ يَحملُ بُذورَ فَنَائِه معه، فمع تَراكُمِ الرَّصيدِ الحَضَاري زادَ الإعجابُ بالذَّاتِ وتَمجيد المَاضي وفقدَت سُلالةُ الامْتزاجِ بين العَربِ الفاتِحين والسُّكَّان المَحليّين روحَ المُغامرةِ والصَّلابةِ وبدأ تَجنيدُ أتراكِ آسيا الوسطى في الجيوشِ بدلًا من العَرب وتَحوَّل هؤلاء الأتراك لحُكَّام، فَخَسِرَ الشُّعراءُ والأُدَبَاءُ والمُفكِّرون رعايةَ البِلاطِ لأعمالِهم لأنَّ الحكَّامَ الجُدُدَ لم يَفْهَمُوا اللّغةَ العربيَّةَ أصْلًا. وهَكذا بَدأَت تَخْفُتُ جَذْوَة العُلومِ الطَّبيعيَّةِ بينما انتشرَت مُعَادَاةُ الفلسفةِ، وتَجمَّدت العُلومُ الدّينيَّةُ عِندَ النّسَخِ الأكثَر مُحافظةً من إنتاجِ العُصورِ الأولى، بخَاصَّة أنَّ الحكَّامَ الجُدُدَ قاموا برعايةِ التَّوجُّهاتِ الرَّافِضَة للتَّجديدِ ولم تهتمْ طبقةُ الحكَّامِ الأتْراكِ بالتِّجارةِ التي هي جزءٌ من تَركيبةِ العَربي، كما تَحوَّلت ملكيَّةُ الأرضِ لطابعٍ إقْطاعي تَقودُه النُّخَبُ العَسكريَّةُ المَملوكيَّةُ والتُّرْكيَّةُ، وأصبحَت مَواهبُ العَربِ مُعطَّلةً في ظلِّ هذا الحُكْمِ، وزادَ الطِّين بِلَّةً أنَّ التَّدهورَ الاجتِماعي والسّياسي وإفراغَ السُّكَّانِ بِسببِ الحُروبِ الصَّليبيَّةِ والغَزواتِ المَغوليَّةِ تسبَّبَا في زِيَادَةِ البَدَاوَةِ التي كان يُستفادُ منها في عُصورِ الإسْلامِ الأولى ضِمْنَ الجيوشِ ولكِن تَحوَّلت عشائرُ البَدو إلى شِبْهِ عُصَاةٍ للحُكَّامِ غيْر العربِ فأضْعَفوا التِّجارةَ والزِّراعة.
وحتّى مع تَبيُّن الفَجوةِ الحضاريَّةِ مع الغرْبِ التي كانَت أحدَ أسباب سقوطِ الأندلُس عام ١٤٩٢، وهي الفَجْوَةُ التي كادَت تُفْضِي لتَكرارِ مأساةِ الأندَلس في المَغربِ العَربي كلِّه، أصْبَحَ الطَّابَعُ المُحافظُ الرَّاكِدُ قَدَرًا للعَالمِ الإسلامي بما فيه العَالم العربي، خصوصًا أنَّ الصُّعودَ العُثْمَانِي ونَجاحَه في حِمايةِ المَغربِ العَربي من غَزواتِ الغرْبِ أعطى دفعةً إضَافيَّةً وغير وَاقعيَّةٍ من الرِّضا عنْ الذَّات.
المراكز العلميَّة الرّئيسيّة تحوَّلت لمَواطِن للجُمود ولم تَقترِب من دور الجامعات الغربيّة
لمْ تَشْهَدْ المِنطقةُ خلالَ العَهْدِ العُثماني مُحَاوَلاتٍ تُذْكَر للتَّحديثِ وتَجْسيرِ الفَجْوَةِ مع الغَربِ الذي اكْتشفَ الأَميركَتَيْن وطَريقَ رأسِ الرَّجاء الصَّالح ليَحرمَ العَالمَ العَربي من إيراداتِ التِّجارةِ الدَّوليَّةِ التي كانَت سببًا لرَخائِه عبْر آلاف السِّنين، مُسَبِّبًا تَدَهْوُرًا مَاليًّا في المِنطقةِ التي تُمثِّلُ التِّجارة الخَارجيَّة ضرورةً لها لأنَّها ليست غنيَّةً بالموارِدِ، كما أنَّ تَدَهْوُرَ وجُمودَ الصِّناعاتِ الحِرَفِيَّةِ المَحلِّيَة ضَاعفَ هذِه الأزمَة وجعلَ الزِّراعةَ المَورِدَ شِبْهَ الوَحيد والتي تَدهورَت بِدورِها نَتيجةَ تَوسُّعِ البَداوةِ وضعفِ دورِ الحُكوماتِ في ظِلِّ وجودِ عاصمةِ الدُّولِ العُثمانيَّة على حافَّة أوروبا مما جعلَها في حَقيقتِها دَولةً أوروبيَّةً حكامُها يَنْظُرُون للعالمِ العربي كمنطقةٍ نَائيَةٍ، بل إنَّهُم حتّى أهمَلوا الأناضول مَعْقِلَهُم الأوَّل، واعتمَدوا على العُنصرِ البَشَرِي المُسْتَقْدَم من أوروبَّا مثْل الإنْكِشارِيَّة أو التُّجَّار اليُونانيّين والأرْمَن الذين أصْبحوا النُّخَب الحاكِمة والرَّأسْماليَّة، بينما تحوَّلَ أتراكُ الأناضول إلى مواطِنين درجةٍ ثانيَّةٍ والعَرب لدرجةٍ ثالثةٍ أو رابِعَة.
وزاد الطّين بِلَّةً أنَّ المَراكزَ العِلميَّةَ الرَّئيسيَّةَ تَحوَّلَت لمَواطِن للجُمودِ ولم تَقترِبْ من دورِ الجَامعاتِ الغَربيَّةِ التي تَحوَّلَت من مَراكزَ دينيَّةٍ إلى مَعاقلَ لرِيادةِ العِلم.
(خاص "عروبة 22")