اقتصاد ومال

"الاستقلال".. عن المؤسّسات الدّولية!

لا أحَد يُجادِلُ في أنَّ الذي يَحْكُمُ العَالمَ مُؤسَّسَاتٍ ليبيراليَّةً مُتوحِّشَةً، تُحاولُ أنْ تَجْعَلَ مِن البُلدانِ رَهينةً اقتصاديَّةً وماليَّةً وتِجاريًّة، فاقدةً للسّيطرةِ على نفسِها ومُنفلتَةً من تَحْصينَاتِها الثَّقافيَّةِ والاجتِماعيَّةِ ومن دون سِيادةٍ سِياسِيَّة. وبذلك، يَبقَى التَّشَكُّلُ العامّ للعَالمِ مُحَدَّدًا بإرادةٍ واحدةٍ تَحْكُمُها إدارةُ هذِه المؤسَّسَات وبمُلْحَقاتٍ تابعةٍ لَها (الدّول المَغلوبَة)، إذْ تعْتَبَرُ هذه الأَخيرة حقولًا مَرْعِيَّةً لتَخْصيبِ الاستثمارِ الشَّامِل والاسْتِغلالِ المُطْلَق.

وِفْقًا لهذِه الإِرَادةِ، أصْبحَت القوّةُ تَكْتَسِبُ مَنْطِقًا خَاصًّا يُعَاكِسُ حَرَكيَّةَ التّاريخِ كحقِّ الشُّعوبِ في التَّطوُّرِ والتَّنميَّة، لأنَّ التَّحكُّمَ الاقتصَادي والمَالي، كما عبَّر عنْه الخبيرُ الاقتصَادي توماس بيكيتي في سِيَاقَاتٍ دَوْليَّةٍ غيْر مُسْتَقِرَّةٍ وتَحَوُّلاتٍ اجتِماعيَّةٍ كُبرى مُرْتَبطةٍ بالرِّهَانَاتِ المُعَقَّدَةِ للعيْش، أَصْبَحَ طَاغِيًا على القُوَّةِ السِّيَاسِيَّةِ التي لمْ تَعُدْ إلّا آليَّةً من آليَّاتِ التَّحَكُّمِ وتبْريرِ الجَرائِم، المُعْلَنَة والمُضْمَرَة. من هُنا، كانَ حدثُ تَرَاجُعِ السِّياسَةِ والدّيبلوماسيَّةِ في الانتِهاضِ بأدوارهِما السِّياديَّة، وعَجْزهما الوَظيفي عن حَلِّ النِّزاعَاتِ وتَدْبيرِ خِلافاتِ الدُّول على نحوٍ عادِل، أو حُدوث آفَةِ "موتِ السِّياسَة" في العالم كما يَحلو للبعْضِ تَسْمِيَتَه.

لا يمكن أن نُفسِّر ويلات دول العالم إلا بمضمون الخرائط الاستراتيجيّة للمؤسّسات الدّولية

إنَّ قُوَّةَ التَّحَكُّمِ الاقتصَادي والمَالي والتِّجاري، لم تعدْ مرتبطةً بالإخضَاعِ والاستِعمَارِ غيْر المُباشَر، وإنَّما بتَغييرِ معْنى العَالَمِ وإِكْسَابِ دَلالةِ الإنسَان في علاقتِهِ برُموزِه وثقافتِه معنًى صِفْرِيًّا، باعتبارِ هذِه المُؤسَّساتِ تريدُ أنْ تَرَاهُ كائنًا مُسْتَهْلِكًا فاقِدًا لأيّ إرادةٍ في وجودٍ مُختلِفٍ، أو مُسْتَقِلًا بأيّ شعورٍ بالانتماءِ إلى الهُوِيَّة.

هذه المُؤَسّساتُ التي يُمَثِّلُها "البنك الدَّولي" و"صُندوق النَّقد الدَّولي" و"منظّمةُ التِّجارة العالميَّة"، والّتي يُدِيرُهَا اتِّحادٌ لاإنساني وعقلٌ غَابَوِي، تُمثِّلُ مَفهومًا جَديدًا للقوَّة، جعلَ مِن التِّكنولوجيا مَوْضوعًا لتَثبيتِ سَيطرتِه المُطْلَقَة، بالاستثمارِ فيها واحتكارِ إنتاجِها المُعَقّّد وتَوْجيهِهَا. ولا يمكنُ أن نُفَسِّرَ ويْلات دُوَلِ العالمِ ومنْها دولُ العَالم العَربي وشَتَاته الدَّاخِلي إلّا بمضمونِ الخَرائِط الاسْتراتيجيَّة لهذِه المُؤسَّسَات التي انْكَشَفَ بعضُها أو جُلّها في الحَرْبِ على غزَّة، وفي تصريحاتِ نتنياهو وترامب حول مستقبلِ مِنطقة الشَّرق الأوْسَط.

يَتَجلَّى فَهْمُ مَعْنَى القُوَّةِ الجَديدَةِ الذي تُرَسِّخُه هذه المُؤسَّسات الدَّوليَّة في علاقتِها بالمُؤسَّسات التِّكنولوجيَّة الكُبرى، في مستويَيْن:

المُسْتَوى الأوَّل، الالتِفافُ على المُؤسَّساتِ التِّكنولوجيَّةِ والسَّيطرة عليْها وفق القَانونِ والمَصْلَحَة العامَّة والاستِثمَار فيها، في سِياقِ ما يُعرفُ بِمُكْتَسَبِ الدَّوْلَةِ الذي عبَّر عنْه ترامب في الولايةِ السَّابقَة بِقَوْلِه: "ليس إنتاج التِّكنولوجيا إلّا إنْتَاج أمَّةٍ لفرْضِ قُوَّتِها على العَالم". كما عبَّرَت عنْه الصّين في مُناسباتٍ مُخْتَلِفَةٍ حوْلَ سِياسَتِها في إنتاجِ التِّكنولوجيا كمَجالٍ مِحْوَري لرَفْعِ تَحِدّي المُنافسَة مع أميركا.

شروط الاقتراض تُحاول إفراغ المجتمعات من رغبة التَّطَلُّع إلى الابتكار والقوَّة وإلهاء الفرد بهُموم العيْش اليومي

المُستَوى الثَّاني، السَّيطرةُ على البنيَةِ التَّحْتِيَّةِ الأسَاسِيَّةِ مِثْل مَراكزِ البَيانَات والشَّبكاتِ العَالميَّة للإنترنت، وخِدْمَاتِ الحَوْسَبةِ السَّحابيَّة، والبياناتِ الضَّخْمَة وأنْظِمَةِ التَّشْغيل، وذلكَ من أجْلِ التَّحكُّم فيها وفَرْضِ السِّياسَات المَشْروطَة على البُلدان. وعليْه، يُصبِحُ القرارُ السِّياسِي في الدُّوَلِ النَّاميَةِ رهينًا بِمصالحِ الشَّرِكَات الكُبرى والدُّول الكُبرى، ممّا يُؤدِّي إلى قمْعِ أيّ مُحاولاتٍ للتَّحرُّرِ مِن هذا النُّفوذ. وبهذِه القُوَّة وضُغوطِها تكونُ الدُّوَلُ النّاميَةُ مُجْبَرَةً على تَغْييرِ قَوانِينِها، مِثْل حمايةِ البَيانَاتِ والضَّرائِبِ أو مُدَوَّنَاتِ الأسْرَة وغيْرها، بما يَتماشَى مع مَصَالحِها. لذلكَ نُلاحظُها تُوفِّر للأنظمةِ التَّابعةِ لَها مُراقبةً جَماعيَّةً لمُواطِنيها وبرامجَ تَجَسُّسٍ لقَمْعِ المُعارِضِين أو السَّيطرةِ على السُّكَّان بدَعوَى "الحفاظ على الأمن العام".

لذلك، فإنَّ شروطَ الاقتِراضِ التي تفرضُها تِلك المُؤسَّسَات المُتَحَكِّمَة، تُحَاوِلُ إفراغَ المُجتمعاتِ مِن رَغْبةِ التَّطَلُّعِ إلى الابتِكارِ والقوَّة عبْر دولٍ وطنيَّة، وإلهاءَ الفرْدِ بهُمومِ العيْشِ اليَوْمي ومُواجهةِ الغَلاء والبطالةِ والفَقْر.

يبقى السُّؤال أخيرًا في حَالتِنَا العربيَّة: ما هي سُبُلُ الارتِقاء إلى مستوًى من مُستوَياتِ هذِه القوَّة بتعزيزِ الاستِقلالِ التِّكنولوجي والسِّياسِي؟ وهل هذا ممكن؟.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن