الأمن الغذائي والمائي

الزّراعة في العالم العربي: هل من سبيل للنّجاة من "شَبَح الجوع"؟!

أصبحَ حَجْمُ الفَجْوَةِ الغِذائيَّة العَربيَّة التي تُقدَّرُ بنحو 87.4 مليار دولار في عام 2021 صَادمًا وبمثابةِ نذيرِ خطرٍ للمِنطقة، بخاصَّة لبعضِ دُوَلِها الفَقيرةِ والمُضْطَرِبَةِ والتي باتَت مهدَّدَةً بالجوعِ بشكْلٍ غيْر مَسبوقٍ في تاريخِ المِنطقة التي كانَت يومًا سلَّةَ خبزٍ تعتمدُ عليها الإمبراطوريّات الكُبرى مِثْل الإمبراطوريَّة الرّومانيَّة التي كانَت تحصلُ على احتياجاتِها من القَمْحِ مِن مصر وشمال أفريقيا.

الزّراعة في العالم العربي: هل من سبيل للنّجاة من

بلغت فاتورةُ استيرادِ الغِذاءِ بالمِنطقةِ العَربيَّة نحو مائة مليار دولار، حسْبَ تقريرٍ لمُنظَّمةِ الأغذية والزِّراعة للأمَم المُتَّحدة "فاو". وعلَى الأرجح فإنَّ المِنطقةَ العربيَّةَ تُعَدُّ مِن أكثَر مناطقِ العالمِ معاناةً من عجْز الغِذاء. ويرْجعُ ذلكَ إلى العديدِ من التَّحدِّيات التي تعرَّضَت لها المِنطقةُ العَربيَّة خلال السَّنواتِ المَاضيَة وأهمُّها نُدْرَة المياه وزيادة معدَّلاتِ التَّصَحُّر نتيجةَ التَّغيُّراتِ المُناخيَّة، بالإضافةِ للتَّراجُعِ المَلحوظِ في الاستِثماراتِ المُوَجَّهَةِ للبِنيةِ التَّحْتيَّةِ الزِّراعيَّة والتي وصلت إلى حوالى 14% فقط من النَّاتجِ الإجمالِي المَحَلّي للدُّول العربيَّة طبقًا لتقريرِ الـ"فاو".

كذلك، أدّت الزِّيادةَ السُّكَانيَّةَ المُطَّرِدَةَ، والتي تُقَدَّرُ بحوالى 2.5%؜ في المُتَوَسِّطِ سنويًّا، إلى تزايُدِ الطّلَبِ على الغِذاءِ ما ساهَمَ في توسيعِ الفَجْوَةِ الغذائيَّة الأمرُ الذي يُمَثِّلُ مُشكلةً كبيرةً للمِنطقة في ظلِّ الحَاجةِ المُلِحَّةِ لاستيرادِ مُعظمِ الاحْتيَاجاتِ من المَحَاصيلِ الزِّراعيَّة من الخارِج من دون توفُّر التَّمْويلِ اللّازمِ من العُملاتِ الصَّعبةِ لتغطيةِ فاتورةِ الاستيرادِ في عددٍ من الدُّول العربيَّة.

كما أنَّ الأزْماتِ الاقتِصَاديَّةَ والاضطِراباتِ السِّياسِيَّةَ بِعِدَّةِ دولٍ عربيَّةٍ وتذَبذُبَ أسعارِ السِّلَعِ الزِّراعيَّةِ، والحربَ بين روسيا وأوكرانيا، كل ذلك أثَّرَ سلبًا في قُدرةِ بعضِ الدُّول العربيَّة على تمويلِ احتياجاتِها من السِّلعِ الغذائيَّةِ ممّا أدّى لزيادةِ الأسعارِ وزيادةِ الفَجْوَةِ الغذائيَّةِ بالعالم العربي.

تُساهم تطبيقات الذّكاء الاصطناعي في تفعيل نُظُم التّحَكُّم الآلي التي تعمل على زيادة الإنتاج الزِّراعي

فعلى سبيلِ المِثالِ، تَستَوردُ مصر حوالى 12 مليون طن من القَمْح بقيمةٍ تصلُ إلى 4 مليارات دولار سنويًّا، كما تستوردُ 90% من احتياجاتِها من الزُّيوتِ النَّباتيَّةِ بقيمةٍ تصلُ إلى حوالى 2.5 مليار دولار سنويًّا، فيما تبلغُ قيمةُ الوارداتِ الزِّراعيَّة في الجزائر حوالى 3 مليارات دولار سَنويًّا، بينما تُعتَبرُ كلٌّ من اليمن والسّودان من أكثر الدُّول تَأَثُّرًا بِنَقْصِ الغذاء، حيث يعاني 70% من السُّكَّانِ في اليمن من انعدامِ الأمْنِ الغِذائي، كما ورد بتقريرٍ للأمم المتّحدة لعام 2023.

حتّى الدُّول العَربيَّة الغَنيَّة مثْل دُوَلِ الخَليج، فعلى الرَّغم من أنَّ لديْها المَواردَ اللّازِمَة لتَمويلِ استيرادِ المَوادّ الغِذائيَّة، ولكنَّ اعتمادَها بشكلٍ كاملٍ على الخارِج يُمثِّلُ مُشكلةً اسْتراتيجيَّةً في ظلِّ قيامِ بعضِ الدُّول المُصَدِّرةِ بحظْر صَادراتِها أحيانًا من المَحَاصيل الغِذائيَّةِ المهمَّةِ لمَنْعِ ارتفاعِ أسعارِها محلّيًّا، مثلَما فعلَت الهند مع الأَرُز والقمْح خلالَ السَّنواتِ الماضيَّة، كما تُمثِّل الوَارِداتُ الزِّراعيَّة عبئًا على ميزانِ المَدْفوعاتِ بالدُّول العربيَّة، حتَّى النَّفطيَّة منها، وبخاصَّةً في أوْقاتِ الأزماتِ الاقتصاديَّة وتراجُع العَائِداتِ النَّفطيَّة.

على الرَّغم من كلِّ تِلك التَّحدِّيات والمشَاكِل التي يُواجهُها القِطاعُ الزِّراعي في الوَطنِ العَربي، يمكنُ لهَذا القِطاعِ أنْ يُحَقِّقَ قدرًا كبيرًا من الاكتفاءِ الذَّاتي في المَحَاصِيل الاسْتراتيجيَّة، وذلك من خلالِ مِحْوَرَيْن أساسِيَّين يَتَمَثَّلُ الأوَّلُ في تطبيقِ التِّكنولوجيَات الحَديثَة، والثَّاني في تحسينِ مَجالاتِ التَّعاوُنِ والتَّكامُلِ الإقليمي بين الدُّول العَربيَّة.

استنباط أصناف زراعيَّة مُقاوِمة للجفاف والملوحة يُساعد على استغلال المناطق الجافَّة والقاحلة بالمنطقة العربيّة

يتجلّى دَوْرُ المِحْوَرِ الأوَّلِ في زيادةِ الاهتمامِ بتطبيقِ نُظُمِ الرَّيّ الحَديثةِ، مثل الرَّيّ بالتَّنقيطِ والرَّش، والتي تُقلِّلُ اسْتِهلاكَ المياهِ وتزيدُ كفاءةَ الرَّي، كما تُساهِمُ تَطبيقاتُ الذَّكاء الاصطِناعي في تحْسينِ إدارةِ المزارع وتَفعيلِ نُظُمِ التَّحَكُّمِ الآلي بالعَملياتِ الزِّراعيَّة والتي تعملُ على زيادةِ الإنتاجِ الزِّراعي بصورةٍ غير مسبوقَة.

ومن أهمِّ التَّطبيقاتِ التِّكنولوجيَّةِ الحَديثة، إنشاءُ المَناطقِ اللّوجستيَّة للتَّخزينِ وتقليلِ الفاقِدِ والذي يتعدَّى 30% في حَالةِ الحُبوب، كما أنَّ هناكَ تَطورًا كَبيرًا في استِنْبَاطِ الأصْنَافِ الجَديدةِ من المَحَاصِيل الزِّراعيَّةِ المُقاوِمَةِ للجَفَافِ والمُلُوحَة، الأمرُ الذي يُساعدُ على استغلالِ المنَاطقِ الجَافَّةِ والقاحِلةِ بالمنطقةِ العربيَّة.

التَّكامُل الزِّراعي للاستفادة من التَّنوُّع بالموارد الطّبيعيّة والماليّة والمُناخ من أهمّ مُدخلات ضمان الأمن الغذائي العربي

تجدُرُ الإشارةُ إلى أنَّ معظمَ الدُّوَل العربيَّة قد اتَّجهَت فِعْليًّا للتَّطبيقاتِ التِّكنولوجيَّة بالقطاعِ الزِّراعي، وهناكَ أمثلةٌ عديدةٌ مثْل مَشروعِ تَحسينِ نُظُمِ الرَّيّ في مصر والزِّراعاتِ المائيَّة في الإماراتِ والصُّوَب الزِّراعيَّة في السُّعوديَّة، إلّا أنَّ التَّوسُعَ بتِلك المشَاريع وزيادةَ التَّطبيقاتِ التِّكنولوجيَّة في كافَّة مجالاتِ القطاعِ الزِّراعي ما زالَ هو الهدف المَأمول لتَطويرِ القِطاعِ الزِّراعي خلال الفَترةِ المُقبلة.

أمَّا بالنِّسبَةِ إلى المِحْوَرِ الثَّاني والذي يَتَمَثَّلُ في التَّكامُلِ الزِّراعِي بين الدُّول العَربيَّة للاستفادةِ من التَّنوُّعِ في المَوارِد الطَّبيعيَّة والماليَّة والمُناخ، فَيُعَدُّ واحدًا من أهمّ المُدْخَلاتِ اللّازمةِ لضَمانِ الأمْنِ الغِذائي العَربي، حيث إنَّ هناكَ العَديدَ من التَّجارِبِ النَّاجحةِ التي يَجِبُ توْسيعُها.

ومِن الأمثلةِ الإيجابيَّةِ التي يُمكنُ الاعْتمادُ عليْها كأَساسٍ للتَّكامُلِ العَربي والإقليمي، مشروعُ استغلالِ أكثَر من مليون هكتار من الأرَاضي الزِّراعيَّة بالسّودان لزراعةِ محَاصيلَ استراتيجيَّةٍ يحتاجُها الوطنُ العربي، والمُمَوَّلُ من "صُندوق أبو ظبي للتَّنميَة"، وكذلكَ "مشروعُ حزامِ النّيل الأخضَر" بين مِصر والسّودان لإنتاجِ القمحِ والذُّرَة لتقليصِ فاتورةِ الاستيرادِ لهذَين المَحْصولَيْن المُهِمَّين.

الحاجة مُلحَّة للتَّوسُّع في تبادُل الخبرات الزِّراعيَّة والبُحوث العِلميَّة ونقل التِّكنولوجيَات الحديثة للقطاعات الزراعيَّة

هناك نموذجٌ آخر للتَّكامُل الإقليمي يَتَمثَّلُ بمَشروعِ "السّوق الزِّراعيَّة الخليجيَّة المشتركة" والّذي يَهدفُ لتَوحيدِ جُهودِ الإنتاجِ والتَّسْويقِ الزِّراعي بين دولِ مجلسِ التّعاون الخليجي.

وعلى الرَّغم من هذه المشروعاتِ النَّاجحة، ما زال هناك حاجَة مُلحَّة لزيادةِ التَّكاملِ والتَّعاونِ الإقليمي في المِنطقة، وأهمُّ تِلك الاحتياجاتِ التَّوسُّعُ في تبادُلِ الخِبراتِ الزِّراعيَّة والبُحوثِ العِلميَّة ونقلِ التِّكنولوجيَات الحَديثَة للقطاعاتِ الزِّراعيَّة بكافَّة الدُّول العربيَّة.

بصفةٍ عامَّة، فإنَّ تِلك الأهدافَ والاستراتيجيَات ليست مُستحيلةً إلّا أنَّ تحقيقَها يَتَطَلَّبُ تضافرَ جهودِ الحُكوماتِ العَربيَّةِ والقِطاعِ الخَاصِّ والمُؤسَّساتِ البَحثيَّةِ للنُّهوضِ بالقِطاعِ الزِّراعِي، كما أنَّ تعزيزَ الشَّراكاتِ الإقليميَّةِ وتوفيرَ الدَّعمِ اللّازِم للمُزارِعين يُحَقِّقُ نقلةً نوعيَّةً للقِطاعِ الزِّراعِي نَتيجةً لزيادةِ الإنتاجِ بما يَضمنُ تَقليصَ فَاتورةِ الاسْتيرادِ والتَّغلُّبَ على الفَجْوَةِ الغذائيَّةِ التي تُهَدِّدُ بِتَفَاقُمِ مُشكلاتِ الفَقرِ والجوعِ في المِنطقةِ العربيَّة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن