كيف لنا أن نؤسِّس لشراكاتٍ اقتصاديةٍ حقيقيةٍ بين الدول العربيّة، في ظلّ غياب أدنى مقوِّمات الإرادة السياسيّة التي باتت تُعَدُّ استثناءً في ظلّ سياقٍ عام تطغى عليه الخلافات وتندر فيه التّوافقات، فإن كنّا نتفهَّم واقعَ الحال في ما مضى ونتذرّع بالخلفيةِ الإيديولوجيةِ لما كان يُباعد بين الدول العربية، فإنّنا اليوم لا ندركُ، وإن أدركْنا فإنَّنا لا نستسيغُ ما يجعلُ الخِلافات مُستفحلةً والتفرقة واقعًا متجذّرًا مستعصيًا عن الحلّ.
على سبيل المثال، الخِلافُ بيْن المغرب والجزائر، انتقل من البُعد الإيديولوجي ليتجدَّد بتجدُّد السّياقات السياسيّة، فكلّ المتتبِّعين للشّأن العربي، كانوا يعتقدونَ أنّه بعد انهيار جدار برلين وتراجُع المدّ الثّوري ونهايةِ حروبِ الخليج، وسلسلةِ المراجعاتِ السياسيّة والاقتصاديّة التي شهدتْها دولٌ عربية كمصر وليبيا والجزائر وغيرها، سيكون لذلك أثرٌ في تذويبِ الخلافات بين عموم البلدان العربيّة، وأنَّ مسألةَ احتلالِ أو تقسيمِ بلدٍ عربي قد أضْحت سرابًا من الماضي، وأنّ هذا السّياق المضطرب الذي أفرز واقعًا جديدًا قد يتحوّل إلى عاملِ لُحْمَة وتعاون في ظلّ المواقف الجديدة التي تبنّتها هذه البلدان خلال العقد الأخير من القرن العشرين، بخاصّة بين المغرب والجزائر، التي قادَت إلى تأسيسِ "اتحاد المغرب العربي" رغبةً في جعلهِ نواة للتّعاون الاقتصادي واللُحمة السياسيّة بين بلدان الجناحِ الغربي للعالم العربي، وهو الأمَل الذي تَعَزّزَ بطرح المغرب لمقترح الحكْم الذّاتي سنة 2007 من أجل الحلّ النّهائي للنّزاع الذي عرْقل جهودَ التّعاون البيْني بين دول المغرب الكبير لعقودٍ طويلة وأهدر زمنًا تنمويًّا واقتصاديًّا يصعبُ تداركه.
واقع مؤسف يُفوّت على شعوب المنطقة العربية فرصًا لتعزيز النّمو وتحصين القرار السياسي عبر تعزيز السيادة الاقتصاديّة
والحال أنَّ الواقعَ السياسي الجديد النّاجم عن موجةِ "الرّبيع العربي"، كان له أثرٌ مخالفٌ، حيث تصاعَدت حدَّة الخلاف بشكلٍ غيْر مسبوق، وأُغْلِقَت الحدود والأجواء وقُطِعَت العلاقات بشكلٍ نهائي بين البلدين، فيما يشبه رَدَّة سياسية وديبلوماسية تفاوتَت شدّتها بين الجزائر والمغرب الذي ظلّت مواقفه ليّنة بعضَ الشيء مقارنةً بالمواقفِ الجزائريّة، وهو الوضعُ الذي أَفْرَزَ حالة استقطابٍ حادّة دفعت المنطقة إلى ولوجِ مرحلةٍ جديدة من الجُمود، جعلت الحديثَ صعبًا إن لم يكن مستحيلًا عن أي تعاون إقليمي أو عربي.
إلى جانب هذا الوضْع المغاربي المُتشنِّج، لم يكن السياق في مشرقِ العالم العربي أكثر إيجابيةً منه في غربِه، فسقوطُ نظام صدّام حسين وصعودُ حركات الإسلام السياسي، وتصاعد التنافُس على الرّيادة بين بعض مكوِّنات دول الخليج العربي، إلى جانب حالة الفوضى التي سادَت المنطقة عقب أحداث "الربيع العربي" وما نجم عنها من تَهَاوٍ سريعٍ لعددٍ من الأنظمة، وصعودِ أخرى جديدة لم تفْلح في لَمْلمَةِ جراح دولٍ كليبيا والسّودان وسوريا واليمن، جعل الحديثَ عن التّعاون الاقتصادي يتوارى أمام قضايا الأمن والتّقسيم والتشظّي الذي باتت تُعاني منه هذه البلدان.
إنَّه سياقٌ متأزمٌ يمكن سحبه كذلك على دولٍ أخرى كمصر والأردن ولبنان التي أضْحَت رهينةَ أزماتٍ سياسية واقتصادية خانِقة، جعلتْها في وضعِ ارتهانٍ اقتصادي وسياسي مزمنٍ للخارج، لم يكن يسمحُ بالتّفكير في تعزيزِ أي شكل من أشكالِ التّعاون الاقتصادي المشترك، باستثناء ما كان يتمُّ عبر القنوات البيْنية التي تربطُها بعددٍ من دول الخليج، التي ضخَّت تمويلاتٍ ضخْمة من أجل مساعدة هذه البلدان على تجاوزِ تَبِعَاتِ "الرَّبيع العربي" الاقتصاديّة.
نواة التعاون العربي يمكن أن تؤسَّسَ بين دولٍ يوجد بينها حدّ أدنى من التّوافق وقد تكون قاطرةً تجرُّ بقيَّة الدول العربية
باستثناء دولِ مجلس التّعاون الخليجي، التي استطاعت إلى حدٍّ كبير تجاوُز تبعات الأزمة الداخليّة التي اندلعت بين أعضائِها، لا يمكن الحديثُ عن تعاونٍ اقتصادي فعّال بين الدول العربيّة، ناهيكَ عن الحديثِ عن سعيٍ نحو تفعيلِ السّوق العربية المأمولَة، وذلك على الرَّغم من توفُّر كل الآليّات المؤسَّساتية والتشريعيّة والتنظيميّة كمجلس الوحدة الاقتصاديّة التابع لجامعة الدول العربية وعددٍ كبيرٍ من الاتفاقيّات الاقتصادية البيْنية التي وُقِّعَت تحت مظلّتِه أو بشكل ثنائي كاتفاقيةِ التبادُل الحرّ الموقّعة بين المغرب ومصر والأردن، وهو ما نعتبره واقعًا مؤسفًا يُفوّت على شعوب المنطقة فرصًا لتعزيز النّمو وتحسينِ مستوى عيش المُواطن العربي، وتحصين القرار السياسي لدولِ المِنطقة عبر تعزيز سيادتِها الاقتصاديّة.
وإن كان الواقعُ مظلمًا، فإنَّ شمعةَ الأمل لا تزال مُتَّقِدَةً، ونواة التعاون العربي يمكن أن تؤسَّسَ من جديد بين دولٍ يوجد بينها اليوم حدّ أدنى من التّوافق، وأعني بذلك، دول المنظومة الخليجية ولبنان ومصر والأردن والمغرب، وهو أنموذجٌ تعاونيٌ لديه عدّة مقوِّمات اقتصادية وسياسية للنّجاح، قد يكون قاطرةً تجرُّ وراءها بقيَّة الدول العربية أسْوَةً بما حدث في أوروبا خلال خمسينيّات القرن الماضي، وهو ما سوف نعمل على تبيانه في المقال المقبل.
(خاص "عروبة 22")