ليس هناك ما يدعو الآن إلى القَطْعِ أنَّ الحرب على غزَّة انتهت. بتوصيف نتنياهو، فإنَّ اتفاقَ وقف إطلاق النار "هدنة مؤقتة" لمرحلةٍ واحدةٍ يعاوِد الحرب بعدَها لإتمامِ هدفَيْها الرئيسيَيْن... اجتثاث "حماس" واستعادة الأسرى والمُختطفين.
الكلامُ بِنَصِّهِ دعوةٌ لاستئنافِ الحربِ لا أجواءَ تهدئةٍ بحثًا عن تسويةٍ ما. لم تُخْفِ كلماتُه وتعبيراتُ وجهِه في شريطٍ مُسَجَّلٍ مرارةَ الفشلِ الذَّريع، وعزْمَه في الوقت عينه على مواصلةِ الحرب بعد المرحلة الأولى بذريعةٍ أو بأخرى.
كشفت معلوماتٌ مُسَرَّبَةٌ أنَّه حصلَ على ضوءٍ أخضرٍ مُسْبَقٍ من إدارتَيْ الرئيسِ المنتهية ولايته جو بايدن والرئيسِ الجديد دونالد ترامب لاستئنافِ القتالِ ضدَّ "حماس" في حال انتهكَت الاتفاق، أو أعادَت تسليحَ نفسِها، أو استأنفَت أنشطتَها في غزَّة.
المعلوماتُ المسرَّبة تستدعي السؤال: لماذا بايدن؟... وهو سوف يكون قد غادرَ "البيت الأبيض" عند بدءِ تنفيذِ الاتّفاق؟!
إنَّها محاولةٌ لابتزازِ موافقةِ الصديق القديم ترامب على مواصَلةِ الحرب، إذا كان بايدن قد وافق فلماذا تتردَّدُ أنت في إعطاءِ ذلك الضوء الأخضر المُسْبَق؟!
إسقاط حكومة نتنياهو يعني مثوله للتحقيق وإدخاله السجن
إنَّها مناورةٌ جديدةٌ ليحتفظَ لنفسِه بحرّيةِ التَّصَرُّفِ في ملفِّ غزَّة وِفق مصالحِه السياسية والشخصية بِغَضِّ النّظر عن الاتفاقاتِ والتفاهماتِ الموقّعة، وشبح سقوطِ حكومتِه ماثِل أمامه في ضغوط اليمين المتطرِّف. إسقاطُ الحكومةِ يعني – بالضّبط - مثوله للتحقيقِ في مسؤوليتِه عن الفشلِ العسكري والاستخباراتي في أحداث السابع من أكتوبر/تشرين الأول (2023) وإدخاله السِجن فيما هو موجَّهٌ إليه من تهمٍ ثابتةٍ بالفسادِ والرّشى وخيانةِ الأمانة.
استهدفَت مناورتُه الأخيرة منع ذلك السّيناريو الكابوسي، إذا ما خرَجت الأحزابُ اليمينيّة المُتطرّفة من التشكيلِ الحكوميّ احتجاجًا على اتفاقِ وقفِ إطلاق النار. وقد نَجَحَ في منعِ استقالةِ وزير الماليّة بتسلئيل سموتريتش بتعهداتٍ وصفقاتٍ تُطْلِقُ يدَه في توسيع الاستيطان بالضَّفَّةِ الغربيَّةِ والتنصُّل من أي التزاماتٍ موقَّعةٍ بشأن الانسحاب من محور "فيلادلفيا".
بِقَدرٍ آخر خَفَّضَ من مستوى الخطرِ، الذي يُحيقُ بمستقبلِ حكومتِه، من استقالةِ وزير الأمن القوْمي إيتمار بن غفير. ضَمِنَ دعمَ نوّاب حزبِه في الكنيست من دون حاجةٍ إلى شبكةِ أمانٍ يَعْرُضُها خصمه اللّدود زعيم المعارضة يائير لابيد ثمنًا لتمريرِ الاتفاق.
مع ذلك كلّه، يصعُب التحلّل من التزاماتِه الموقَّعة، فالكلفةُ السياسيةُ باهظةٌ وفوق كل تحمُّل.
هناك – أوّلًا - روحٌ معنويةٌ وقتاليةٌ تسري في أوساطِ الفلسطينيّين بعدما تأكَّد لهم بنصوصِ الاتّفاق أنَّ هزيمةَ إسرائيل ممكنةٌ على الرَّغم ممّا تعرَّضوا له من إبادةٍ جماعيةٍ وتجويعٍ منهجيٍ بما يفوقُ أي قدرةٍ إنسانيةٍ على التحمّل. قاتلوا وضحّوا ولم يرفعوا رايةً بيضاءَ واحدة.
باعتراف صحيفة "هآرتس" اليساريّة الإسرائيليّة: "أثبتَ الفلسطينيّون أنّهم أفضل شعوبِ العالمِ في الدِّفاع عن أرضِهم".
هناك – ثانيًا - تصدُّعاتٌ إسرائيليّة لا يمكن القفزُ فوقها من دون صِداماتٍ غيْر محتملةٍ، الجيش منهكٌ، والشعورُ العميقُ بالهزيمةِ يسْري بين ضباطِه وجنودِه، والاقتصادُ مستنزَفٌ، واستطلاعاتُ الرّأي العام تؤكِّدُ أنَّ غالبيتَه السَّاحقة تؤيِّد الاتفاقَ والمِضِي قُدُمًا في كافّة استحقاقاتِه ومراحلِه.
وهناك – ثالثًا - أولويّات ترامب، التي يتصدَّرُها إنهاءُ الحرب الأوكرانية بصفقةٍ مع الرّئيس الرّوسي فلاديمير بوتين، والصّراعُ مع الصين على النّفوذ الاقتصادي قبل أزمات الشَّرق الأوسط.
إذا اخْتَلَّت صدقيَّته في الأيام الأولى من ولايتِه فإنَّ أحدًا في العالم لن يثقَ بأي اتفاقاتٍ يرْعاها، أو يوقِّع عليها. إنَّها مسألةُ صورةٍ وهَيْبَة.
لذا أعلن فريق ترامب الالتزامَ بتنفيذِ الاتّفاقِ بكلّ بنوده ومراحله... لكن لا يمكن الوثوقُ في رجلٍ تحكمُه الصَفْقات لا التصوّرات، المَصالِح لا الاعتبارات الأخلاقيّة.
معْضلة نتنياهو وترامب معًا غياب أي أفقٍ سياسيٍ لليوم التّالي. كلاهُما لا يريدُ الحديثَ فيه، حتى لا يجد نفسَه مضطرًّا إلى التّسليم بالحقائقِ على الأرضِ، أوَّلها وأهمّها أنَّ هناك شعبًا يطلب حقَّه القانوني والإنساني في تقريرِ مصيرِه بنفسِه ولا يمكن إجبارُه على الرّضوخِ لإرادة القوّة.
من يتولّى إدارةَ قطاعِ غزَّة؟! إنَّه أوَّلُ الأسئلة الحَرِجَة. وِفق الرؤية الأميركيّة التّقليدية فإنَّها السُّلطة الفلسطينية شرط إعادة تصحيح أوضاعِها لتكون قادرةً على الوفاءِ بمهامِّها في خدمةِ الأمنِ الإسرائيلي - هكذا بكلّ وضوح!
القضية الأخطر فرضُ السيادة الإسرائيلية على الضفَّة الغربيَّة بدعم ترامب
"تقويضُ السُّلطة الفلسطينية يدخل في الاستراتيجيّة التاريخيّة لعزْلِ غزّة عن الضَّفَّة الغربيَّة"- هكذا تعترفُ بلا مُواربةٍ كتاباتٌ ومداخلاتٌ إسرائيليةٌ عديدة.
إذا كانت حكومة نتنياهو ترفضُ مبدأَ "حلّ الدولتَيْن" نهائيًّا ومُطلقًا، فلا توجد أدنى فرصةٍ لأرضيةٍ سياسيةٍ يُبنى عليها وقابلة للاستدامَة.
وِفق توماس فريدمان، الكاتب الأميركي اليهودي، فإنّ "إسرائيلَ في خطرٍ داهمٍ لأنّها تخوضُ الحربَ بلا أفقٍ سياسيٍ وتستبعِدُ إسنادَ إدارة قطاع غزّة إلى فلسطينيّين أكثر اعتدالًا".
القضية الأخطر التي سوف تفرض نفسها على حساباتِ وسيناريواتِ المستقبلِ المنظور: فرضُ السيادة الإسرائيلية على الضفَّة الغربيَّة بدعم ترامب.
إنَّها تعني إلغاءَ السّلطة الفلسطينيّة بقوَّة الأمر الواقع وتفجير الأراضي المحتلّة كلّها.
(خاص "عروبة 22")