وبالفعل، حَظِيَ لبنان بما لم يحظَ به بلدٌ آخر في الشرق الأوسط من عناية واهتمام ورغبة في مساعدته من قبل الأشقاء العرب والأصدقاء في العالم، وللبيان تكفي الإشارة إلى المؤتمرات التي عقدت من أجل تقديم العون للبنان بالتوازي مع قيامه بمساعدة نفسه، عبر التزامه بإجراء الإصلاحات السياسية والإدارية والمؤسساتية والاقتصادية والمالية التي كانت تتعاظم حاجته إليها. من ذلك مؤتمر أصدقاء لبنان في واشنطن (1996)، ثم مؤتمرا باريس الأول (2001)، والثاني (2002)، ومؤتمر استوكهولم (2006)، ومؤتمر باريس الثالث (2007)، ومؤتمر فيينا (2008) ومبادرة المغفور له بإذن الله تعالى جلالة الملك عبد الله بن عبد العزيز، لدعم الجيش اللبناني بمبلغ ثلاثة مليارات دولار إضافة لمبلغ المليار دولار التي قدّمها للبنان (2013)، ومؤتمر سيدر (2018).
المفارقة أنَّ تلك المسيرة الحافلة بالنيات الطيبة للتقدم على مسارات تنفيذ الإصلاح الحقيقي، كانت تصطدم باستعصاء شديد ومزمن على الإصلاح، حال دون تحقّقه، ومارستْه مجموعات سياسية وحزبية داخلية وقوى إقليمية، فكان من نتيجته إجهاض معظم تلك المحاولات وتضييع تلك الفرص، حيث سمع اللبنانيون مراراً وتكراراً، ما نقله الأشقاء والأصدقاء: "لن نتمكن من مساعدتكم، ما لم تساعدوا أنفسكم!".
أستعيد هذه المحاولات لأُبيّن خطورة ما وصلت إليه حال إدارات الدولة اللبنانية ومؤسساتها وأجهزتها، حيث باتت طاردة للكفاءات الجديدة، بدلاً من اجتذابها، وحيث ازداد تفشي الممارسات الزبائنية، وازدادت حدّة التشاحن بين معظم الزعماء والسياسيين والأحزاب في التسابق على تحاصص مختلف المواقع في الدولة اللبنانية وفي مراتبها كافة. بذلك لم تعد الإدارة اللبنانية فاعلة، كما يفترض بها أن تكون، وباتت مجموعات متناثرة من مواقع النفوذ التي يسيطر عليها معظم السياسيين والزعماء من أجل السيطرة على قواعدهم الانتخابية، بإثارة المخاوف من المكونات الأخرى في لبنان، وبتقديم الإغراءات والمنافع والخدمات الشخصية لتلك القواعد على حساب الدولة، أملاً في تأبيد تسلّطهم.
إدارة الدولة للشأن العام ليست حقلاً لجني المنافع الخاصة أو لحشر طوابير من المحاسيب والمنتفعين
ذلك ما أدّى بطبيعة الحال إلى أن بات المواطن اللبناني أسير قواعد الزبائنية السياسية؛ إذْ أصبح حصوله على أي من حقوقه في تسلُّم أي موقع، أو في الحصول على ترقية، أو في تأمين الحد الأدنى من الحصانة له، ليس رهناً بمستوى كفاءته وجدارته أو أدائه أو تفانيه في عمله، بل بمقدارِ ما يتمتع به من رضى أولئك الزعماء والسياسيين، وبمدى استعداده للانصياع لمشيئتهم. ولذلك، فقد باتت الأمور تجري في الإدارة العامة اللبنانية خلافاً لأحكام المادتين 12 و95 من الدستور اللبناني، الذي- وبالمناسبة- لا يخصص أي موقع من المواقع في الإدارة اللبنانية لأي طائفة أو مذهب في لبنان، ولا يحظر أي موقع على من ينتمي لأي طائفة أو مذهب. وهكذا، تحوّلت الإدارات العامة ومؤسساتها وأجهزتها إلى إقطاعات للزعماء السياسيين، وباتت تُعاني من تضخُّم في الحجم ونقصٍ فادح في الكفاءة والإنتاجية، كما باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً ومتزايداً على مالية الدولة اللبنانية، وكذلك وسيلة استنزافٍ غير مُجْدٍ لمواردها المتناقصة أصلاً بسبب الأزْمات المتوالية على لبنان.
المشكلة تكمن في تعاظم ارتهان الدولة اللبنانية لوصاية الأحزاب الطائفية والمذهبية والميليشياوية
يجب التأكيد هنا، أنَّ الإدارة العامة في نظامنا الديمقراطي البرلماني اللبناني، في المبدأ كما في معظم الأنظمة الرشيدة، ينبغي أن تكون إدارةً محايدةً، بمعنى أنها للموظفين جميعهم على اختلاف انتماءاتهم الدينية أو المناطقية أو الحزبية، وأنَّ ولاءَها الوحيد والحصري يجب أن يكون للدولة، ولجميع المواطنين دون تمييز أو انحياز. فإدارة الدولة للشأن العام ليست في الأساس حقلاً لجني المنافع الخاصة، أو لحشر طوابير من المحاسيب والمنتفعين. ولكنها، كما يفترض بها، إدارة راقية وصحيحة لتحقيق المنافع العامة. كذلك ينبغي أن تكون خلّاقة ومحفّزة للنمو ولفرص العمل الجديدة في القطاع الخاص، باعتبار أنّ الاقتصاد الناجح يقوم على قطاع خاص نشط ومبادر، تحت رعاية دولة محفزة لتطوره ولنهوضه، كما للحؤول دون ممارسات الاحتكار.
المشكلة تكمن في تعاظم ارتهان الدولة اللبنانية لوصاية الأحزاب الطائفية والمذهبية والميليشياوية، والذي تفاقم جرَّاءَ التنفيذ المبتور والمجتزأ وغير الصحيح للدستور ولاتفاق الطائف بسبب الزبائنية السياسية في الداخل و"الزبائنية للخارج"، أي لإملاءات الوصايات الخارجية، مما جعل الإصلاح أكثر استحالة. ذلك الإصلاح ليس أغنيةً نرددها ونطرب لها، ولا مجرَّدَ نيَّةٍ طيّبة نعلنها- على ما أشرتُ مراراً وحذَّرتُ في حكوماتنا ومجالسنا النيابية- وإنما هو قرارٌ سيادي للدولة في الداخل وبإزاء الخارج.
لا عجب إذاً أنْ تشترط الجهات المعنيَّة (البنك الدولي أو صندوق النقد الدولي والصناديق العربية والدولية أو الدول الشقيقة والصديقة)، لمساعدة الدولة اللبنانية أن يُصار إلى معالجة هذا التورُّمَ المرضيَّ في حجم الإدارة وحجم أسلاكها وأجهزتها وفي مستوى ونوعية أدائها، مما يحمّل المكلّفين ودافعي الضرائب اللبنانيين عبء كلفتها المتعاظمة.
المبادئ والقواعد التي حملها خطاب القسم وخطاب قبول التكليف يُفْترضُ العمل على تنفيذها لاستنهاض لبنان
لقد أردتُ أن أستعيد هذه المبادئ الأساسية للتدليل على مدى أهمية العودة إلى احترامها. وهي المبادئ التي يشدّد عليها الدستور، كما تشدّد عليها قواعد الإدارة الكفوءة والرشيدة والمحوكمة.
كذلك أستعيد هذه القواعد والمبادئ الأساسية في ضوء التوجهات الواعدة الجديدة التي حملها خطاب القسم الذي أدلى به فخامة الرئيس جوزف عون، وتلك التي أدلى بها دولة الرئيس المكلّف نواف سلام في خطاب قبوله التكليف؛ وهي المبادئ والقواعد التي حظيت بتأييد داخلي جامع، وكذلك بتأييد عربي ودولي كبير، والتي يُفْترضُ أن تعتمدها الحكومة العتيدة، ويُصار إلى التقيد بها والعمل على تنفيذها، بما يُسهم في استيلاد فرص واعدة وجدية لاستنهاض لبنان وإخراجه من أتون أزماته.
والحال أيضاً، انَّ العديد من المسؤولين في الدول الشقيقة والصديقة، أخذوا تباعاً وسراعاً يُجدِّدون اهتمامهم بلبنان في ضوء المتغيرات والتحولات الكبرى الحاصلة في لبنان والمنطقة، وهم في الوقت ذاته يبدون حرصهم وحَدْبهم على صيغته الفريدة، وعلى سلامة العلاقة بين المكونات اللبنانية تحت سقف الدستور، وعلى استعادة الدولة اللبنانية لسلطتها الكاملة من جهة، ولكفاءتها ورشاقتها وفعاليتها من جهة ثانية، ولاسيما بعد الانهيارات الشديدة التي أصابت الدولة اللبنانية، وأدخلتها في نفق مظلم وطويل من سوء الإدارة وتبديد الفرص والإمكانات، والابتعاد المستمر عن الالتزام بمعايير الكفاءة والجدارة والاستحقاق والأداء المتميز في الإدارة العامة.
اجتراح التسويات النبيلة شرطُ العيش معًا متساوين ومتنوعين
لا بد لي هنا من التوقف قليلاً لأسلّط الضوء على مسألة أساسية؛ وهي أنّ لبنان الكبير تميَّز منذ إنشائه بأنه مساحة غنية لتفاعل المواطنين المنتمين إلى طوائف ومذاهب متعددة، تفاعلٍ حضَّ عليه دستوره الأول والأعراف على مدى عقود، وصولاً إلى الدستور المعدّل حسب اتفاق الطائف.
فالبنية اللبنانية قامت على مبادئ السيادة والاستقلال والحرية والمساواة وإلزامية التعليم للجنسين، وخلقت أرضاً خصبة للابتكار والتميز، وانتشار المدارس والجامعات في مناخ أرضى المسيحيين، كجماعةٍ تأسيسية ومبادرة واضحة، وشارك فيها واستفاد منها المسلمون بالانخراط في اللعبة السياسية الديمقراطية وبنجاتهم لاحقاً من الالتحاق بركب الاستبداد الذي ساد المنطقة. بعبارات أخرى، فإنَّ اعتراف الجماعات اللبنانية ببعضها بعضاً، وتصميمها على العيش معاً متساوين ومتنوعين في كنف دولة واحدة سيدة مستقلة. كل ذلك شكّل سداً منيعاً أمام صعود الديكتاتورية في لبنان، خلافاً للسائد في المنطقة من حولهم، وهو ما ميَّزهم بقدرة فائقة على اجتراح التسويات النبيلة التي هي شرطُ العيش معاً متساوين ومتنوعين. ولنلاحظ أيضاً، أنّ هذا الخيار اللبناني قد جاء في حقبة دولية تميزت بصعود موجات التطرف القومي والنزوع إلى تكوين مجتمعات صافية.