ترجمات

الخضوع الاستبدادي: ترويضُ أجسادِنا في العالم الرّقمي!

تعريب: منعم دائخة – ليبيا

المشاركة

النصُّ التالي أدناه هو ترجمةُ مقالٍ حرّرَه كارلوس خابيير غونثاليث سيرانو، وهو أستاذ الفلسفة وعلم النفس في المرحلة الثانوية بإسبانيا، ونُشِرَت النسخة الأصلية للمقال في صحيفة "إل باييس" الإسبانية.

الخضوع الاستبدادي: ترويضُ أجسادِنا في العالم الرّقمي!

لقد رُوِّضَت أَجْسَادُنَا. تشعرُ أيدينَا بالتّيهِ والفراغِ من دونِ الهاتِف، ولا نعلمُ أين ننظرُ حين نرفعُ بصرَنا عنْ الشَّاشَة. إذا كنّا نتحلّى بالشجاعة للنّظرِ وإلقاءِ لمحةٍ خاطفةٍ من حولِنا، فليْس من الصعوبةِ بمكانٍ أن نرى حقيقةً جوهريّةً لا سبيلَ لإنكارِها.

لقد انْحَنَت أعناقُنا، كما لو كنَّا إزَّاءَ عبوديةٍ مخْفيةٍ، حيث اتّخذَت أجسادُنَا شكلَ آلاتٍ تنحنِي كالمواطنِين المُخلصِين أمام الخُضوعِ الاستبدادِي في المجالِ الرَّقمي، الذي يَعِدُنَا بأن نكونَ أكثرَ اكتمالًا وحُريّة.

الأجهزة حَوّلَتْنا إلى أدواتٍ خاصَّة بها واستبدَّت بأجسادنا

في غضونِ السّنواتِ الماضية، اسْتُعْمِلَ مصطلحُ "المواطِنون الرَّقميّون" بطبيعةٍ مخيفةٍ للإشارةِ إلى الأجيالِ الموْلودةِ في سياقٍ اجتاحتْهُ الأجهزةُ التي تمنحُ تجربتَنَا الحياتيةَ اتِّساعًا وإتقانًا لم نَعْهَدْهُما مِن قبْل. لقد لُوِّحَ بجميعِ أنواعِ الحُجَجِ للدّفاعِ عن أنّنا، أكثرَ من أيّ وقتٍ مضَى، نملكُ العالمَ بيْن أيدينَا وأنَّ كلّ شيءٍ صارَ في مُتناولِ أيدينا بحركةٍ بسيطةٍ من إبهامِنا. ومع هذا فقد حَدَثَت هذه الثَّورةُ الرَّقميةُ المزْعومة مِن دونِ أيّ تحليلٍ أخلاقيٍّ أو نقديٍّ من جانبِنَا، وقد اعتبرْنا أنّ حياتَنَا كالهواءِ الذي نَتَنَفَسُّهُ ينبغي أن تتطوَّرَ بين الأجهزةِ التي بفضْلِ استعمالِها حَوّلَتْنَا إلى أدواتٍ خاصَّةٍ بها واستبدَّت بأجسادِنا بكلّ فرَح.

في نهايةِ يومي بالمدرسةِ التي أعمل بها كمدرّسٍ ومستشارٍ في الثَّانويةِ، أراقبُ بقلقٍ، كلّ الأطفالِ وهم يُخرِجُون هواتفَهُم المحمولَةَ للتحقُّقِ من إشعاراتِ التّطبيقاتِ المُثْبَتَة. هذا بكلّ تأكيدٍ إذا لم يفعلوا ذلك مُسْبَقًا في الفصلِ بعيدًا عن أعينِ المعلّمين في مكانٍ من المفترضِ أن يكونَ آمنًا من تلوّثِ المُنَبِّهَاتِ التي يتعرّضون لها في كلّ لحظةٍ من حياتِهم.

يُعاني الكثيرُ منهُم، وهذه حقيقةٌ يشاركُهُم فيها العديدُ من الزّملاءِ من مراكزَ أخرى، صعوبةً في النَّومِ، وتوتّرًا شديدًا إذا لم يستطيعوا الوصولَ إلى هواتفِهم في أيّ وقت، أو مشاكل في التعاملات الشَّخصية. حتَّى أنَّ ثمَّةَ حديثًا عن "مُتلازمةِ فقدانِ النَّظر" في الحالاتِ التي لا ينظرُ فيها الأشخاصُ إلى بعضِهم البَعْض أثناءَ الحديثِ لأنّهم ببساطةٍ يفقُدونَ عادةَ القيامِ بذلك تدريجيًّا فصارَ يُنْظَرُ إلى نظرةِ الآخر على أنّها تهديدٌ وتطفلٌ على البراحِ الخاصِّ الذي يُعقدُ بيْن الذّات والهاتِف.

نُزَوِّدُ أطفالَنا والمراهِقين بأدواتٍ تساعدُهم على السَّيطرة على سيلٍ رهيبٍ من المُحفِّزاتِ التي يتعرَّضون لها. لقد زَوَّدْنَاهُم بشاشاتٍ يُفترضُ أن تجعلَهُم أحرارًا، وعلى العكسِ من ذلك، نشلُّ حركتَهم بسلاسلَ صامتةٍ، ولكنَّها حديديَّة. في كلّ مرةٍ نُتيحُ لهُم حَمْلَ جهازٍ محمولٍ بين أيديهِم بشكلٍ طبيعيٍّ تمامًا مع قناعةٍ بأنّه "ينبغي تعليمَهم كيفيةَ استعمالِه فيما يفيدُهم" فنحنُ ننطلقُ من فَرَضِيَّةٍ مُؤَدّاها أنّ استعمالَ التِّكنولوجيا الرَّقمية هو أمرٌ حياديٌ، وبالتّالي، لا يوجدُ أيّ خَطَأ حين نُعَرِّفُهُم عليه.

ثَمَّةَ من سيجدُ هذا البيانُ مثيرًا للقلقِ بشكلٍ لا ضرورةَ له، بل مجنونًا أو مُحافِظًا أو رجعيًّا، لكنَّ واجبي كمُعلّمٍ يرغبُ في الرّفاهيَّة العاطفيَّة والتطوّر الفكري لطلابِه هو أن يَتَكَلّمَ عمّا يراهُ ويتحقَّقُ منه على أساسٍ يومي.

الخوارزميات والذَّكاء الاصطناعي تحاولُ إبقاء الأطفال مُقَيَّدين لأطول فترةٍ ممكنة

من خلالِ منحِ الهواتِف لهم، فإنَّنَا لا نشغل أيديهِم التي كانت حُرَّةً في السَّابق حتى يستطيعوا عيْشَ حياتِهم من خلالِها وحسب، لكن عبر منحِهِم الهواتفَ المحمولة من دونِ التَّشكيكِ في استعمالِهِم لها، فإنّنا نقمعُ حياتَهُم وإمكاناتِهم وندعوهُم ضمنيًّا وجدِّيًّا إلى الاستسلامِ لكلِّ أنواعِ المصالحِ الاقتصاديةِ والتجارية.

إنَّ الخوارِزمياتِ والذَّكاءَ الاصطناعي التي تحاولُ إبقاءَ الأطفالِ مُقَيَّدِينَ لأطولِ فترةٍ ممكنةٍ تَعْرِفُهُم بشكلٍ أفضلَ منّا. إنَّهُم على درايةٍ كافيةٍ بما يحبّونَه وما يكرهونَه، ومكامن القوَة والضعف لديهم، ورغباتهم وتطلعاتهم، ويستعملون هذه المعرفةَ للسّيطرة على إرادتِهم باسم الحرية والمتعة.

لقد وَقَعْنَا نحنُ كبالغين في الفخِّ الذي نصبتَهُ لنا شركاتُ التِّكنولوجيا الكبرى بألوانِها البرّاقةِ ورسائلِها الجذّابة والحلوة (البقاءُ مُتَّصِلًا لأطول فترة، التسوّق بسهولة، نسيان النّقود، تسهيل جميع أنواعِ العمليات، وغير ذلك)، من دونِ أن نتساءَلَ عمّا يكمُنُ خلفَ المتعةِ المثيرةِ التي نستسلمُ بها للفضاءِ الرّقمي وتسليمِ أنفسِنا للشّاشات. والأهمُّ ألّا ننسى أنَّنَا النَّموذج الذي يتخذُه أبناؤنا ومراهقونا قدوةً لهُم، إنّهم أكثر من انعكاسٍ لما نسمحُ بِه، ولما نعزِّزُهُ ونُطَبِّعُهُ.

إنّه أمرٌ مروّعٌ أن نعرفَ أنّ الخرابَ النّفسي والفكري الذي يُتَرْجَمُ في نهايةِ المطافِ على أنّه هيمنة اقتصادية، وهو الأمر الذي سبّبَهُ الإدمانُ على الشّاشات، حتى دُجِّنَتْ أجسادُنا عبر إجبارِنا على النّظَرِ أرضًا (فقدان وجهات نظرٍ أخرى) وعبر السيطرةِ على أطرافِنا، وإخضاعِ ذكائِنا، وتحويلِه إلى عبد، ووعاءٍ مخدِّرٍ للمُحَفّزات.

نعتبر أنفسنا أحرارًا بينما هم على الضفّة الأخرى يَمُدّون إلينا القيود التي نَجْلِدُ بها أنفسَنا

لقد رُوِّضَتْ أجسادُنا: تشعرُ أيدينا بالتّيهِ والفراغِ من دون الهاتِف، ولا نعلمُ أين ننظرُ حين نرفعُ بصرَنَا عن الشَّاشَةِ. لقد صارَ الاستعمالُ القهري واللّانقدي للشاشاتِ في حياتِنا أمرًا طبيعيًّا، وبه افتقرْنا إلى السيطرةِ على سلوكِنا واعتمادِنا العميقِ على التحفيزِ. وكما ترى شانتال مايارد في عدَّةِ مواقعَ مختلفةٍ، إنَّنَا بحاجةٍ إلى إعادةِ تثقيفِ وَعْيِنَا، لأنَّ إدمانَ الشَّاشاتِ يُخفي أزمةَ رغبتِنا: مرضُ السّرعةِ الذي يحرمُنا من قدرتِنا على اتِّخاذِ القرار.

لقد فقدْنا الأفق. فقدْنا حواسّنا. إذا وجَّهنا أعيُنَنَا إلى الشَّاشة، فإنّنَا لن نرى إلّا ما يريدون مِنّا أن نراه، وبهذا سَيُبْرَمُ العقدُ النِّهائي، وبما أنّنا لا نعايِنُ إلّا جزءًا من الواقعِ، فسنظنُّ أنّ الواقعَ هوَ كلّ ما هو موجود. وبهذا نعتبرُ أنفسنَا أحرارًا، بينما هم على الضفَّة الأخرى، يَمُدّون إلينا القيودَ التي نَجْلِدُ بها أنفسَنا بنشاطٍ وشغف!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن