يرتبطُ اقتصادُ المعرفةِ بالثّورةِ الصّناعيةِ الرّابعةِ، والتي وَصَلَت إليْها البشريّة، بعد الانتقالِ من الزِّراعةِ إلى الصِّناعةِ ثمَّ إلى الإنتاجِ الرَّقمي غير المادّي. ومعلومٌ أنَّ هذه الثّورةَ الجديدةَ، تمتزجُ فيها حقولٌ معرِفيةٌ متعدِّدَةٌ، مثل الذّكاء الاصطناعي وعِلْمِ الآلة الذَّكيّة، النّانوتكنولوجيا والمعلوميَّات الجديدة والحوْسبة وفيزياء الكمّ وعلمِ الوراثةِ وغير ذلك. وأصبحت الدُّوَلُ الكُبرَى تتهافتُ على امتلاكِ تكنولوجيا الثّورةِ الصِّناعيةِ الرَّابعة، وتتخلّى بالتَّدريجِ عن الصِّناعاتِ الثّقيلةِ التَّقليديةِ وتحوّلها إلى مَناطقَ جغرافيةٍ في العالَم الذي هو في طوْرِ النُّمُوّ أو إلى الدُّول التي ما زالت تتساهلُ في مجالِ احترامِ معاييرِ البيئةِ المستدامَة.
التّكنولوجيا هي توظيفُ العلم في الإنتاج أي التَّأسيس لتحالف بين العلماء وأصحاب رؤوس الأموال
لقد تمَّ التَّرويجُ لمفهومِ الثّورةِ الصِّناعيةِ في منتدَى "دافوس" العالمي، الذي اعتمدَ هذا المفهومَ شعارًا لدورتهِ لسنة 2016، واعتبرَها إريك سيغال، حينها، فرصةً لتجويدِ التَّواصُل البَشري وحلّ النّزاعات، وهو زَعْمٌ فيه نظَر، لأنَّ الثّورةَ الصِّناعيةَ الرَّابعة، تتضمّنُ كذلك مخاطرَ جمَّة.
ترتكزُ هذه الثّورةُ على اقتصادِ المعرفةِ، الذي يُعَرِّفُهُ البنك الدّولي بأنَّه "الاقتصاد الذي يعتمدُ على اكتسابِ المعرفةِ وتوليدِها ونشرِها واستثمارِها بفاعليةٍ لتحقيقِ تنميةٍ اقتصاديةٍ واجتماعيةٍ متسارعة"، ويُرادُ باقتصادِ المعرفة لدى منظّمة التَّعاون والتّنمية الاقتصادية، ذلك الاقتصادُ الذي يستندُ إلى إنتاجِ المعرفةِ ونشرِها وتوظيفِ المعلومات. ومن المعلومِ أنَّ التقنيةَ أو التّكنولوجيا، هي توظيفُ العلمِ في الإنتاجِ، أيْ إخراجُ المعرفةِ من الإطارِ النَّظري الصّرف الى مجالِ التَّطبيقِ وابتكارِ منتجاتٍ جديدة، أي التَّأسيسُ لتحالفٍ بين العلماءِ وأصحابِ رؤوسِ الأموال. ويمكن أن يضمَّ مفهومُ اقتصادِ المعرفة، مفاهيمَ أخرى مثل اقتصاد الإنترنت والاقتصاد الرَّقمي والاقتصاد الإلكتروني والاقتصاد الافتراضي والاقتصاد الشَّبكي واقتصاد غير مادّي.
من ناحيةٍ أخرى، لا يمكنُ حصرُ اقتصادِ المعرفة في جانبهِ الرَّقمي أو غير المادّي وحسب، وإنّمَا يشمَلُ كلّ المجالاتِ الإنتاجيَّة، التي أصبحت تستفيدُ من الثّورةِ التِّكنولوجيةِ الجديدة، وذلك على مستوَى التّصميمِ والتَّصنيع والتَّسويق والاتّصال والابتكار. لذلك هناك صراعٌ جيوسياسيٌ على جذْبِ العقولِ القادرةِ على تقديمِ حلولٍ تقنيةٍ لمعضلاتِ الإنتاجِ والابتكارِ المتواصلِ لمنتجاتٍ جديدةٍ وقادِرةٍ على تحسينِ ظروفِ الإنتاجِ، وإبْهارِ المُستهلِك.
يستندُ اقتصادُ المعرفةِ إلى "علمِ السُّرعة"، الذي نظَّر له بول فيريليو، والذي رَبَطَ بين السُّرعةِ والسّياسة، واعتبر القوّةَ بمدلولِها الشامِل، كامنةً في إدارةِ السّرعةِ التي أصبحَت تلتهمُ الزّمن نفسه. ولهذا الاعتبار فإنّ "حربَ السّرعة"، هي محدِّدٌ مهمٌ وخطيرٌ يدفعُ باقتصادِ المعرفة إلى التوسُّلِ بتقنياتٍ ومعارفَ جديدةٍ وقدرةٍ على التّخيُّلِ والإبداعِ، وأهمّ من ذلك امتلاك آلياتِ جمْع المعلوماتِ وتحليلِها واتخاذ القرار بسُرعةٍ أكبر وبشكلٍ فعّال.
تتحالف الشّركات الكبرى مع المراكز البحثيَّة والجامعات في تمويل أبحاث قادرة على تغيير قواعد اللّعبة الاقتصادية
كما أنَّ "علمَ السّرعةِ"، يُنبِّهُ صُنّاعَ اقتصادِ المعرفة، إلى أهمّيةِ التحوُّل وتغيير أنماطِ الإنتاجِ والتَّسويق، بسبب الطّفرةِ التّقنيّةِ والعلميّة، وهذا ما يجعلُ جميع الفاعلين في اقتصادِ المعرفة تحت ضُغوطٍ كبيرة، والعمل بكلّ الوسائل من أجل مواكبةِ المستجدّاتِ وتوقُّعِها ووضعِ خططٍ استشرافيّةٍ واستباقيّة، موازاةً بالطّبع مع اعتمادِ مناهج وطرق التجسُّسِ العِلمي والاقتصادي.
يخضعُ اقتصادُ المعرفة إلى سياساتٍ علميّةٍ جديدة، حيث تتحالفُ الشّركاتُ الكبرى مع المراكزِ البحثيَّةِ والجامعاتِ في تمويلِ أبحاث قادرة على تغييرِ قواعدِ اللّعبةِ الاقتصاديةِ وابتكارِ مُنتجاتٍ جديدة، ترومُ اكتساحَ الأسواقِ وتُسقطُ هيمنةَ مُنتجين غيْر قادرين على الابتكارِ وتشكيلِ أذواق المستهلكين والاستجابةِ إلى متطلِّباتِ العصر، التي هي في تحوُّلٍ مستمرٍ وسريع.
من المتوقَّعِ أن يتجاوزَ حجمُ الاقتصادِ الرَّقمي العالمي 16.5 تريليون دولار، بحلول سنة 2028، أي 17% من النّاتج المحلي الاجمالي العالمي. وتُعَدُّ الولاياتُ المتّحدة الأميركية والصّين والمملكةُ المتّحدة واليابان وألمانيا وكوريا الجنوبيّة، الدول المُهيمنة على الاقتصاد الرَّقمي. ولذلك هناك تنافسٌ حادٌ بين الشّركاتِ العالميةِ في تطوير التِّكنولوجيا الرَّقميّة، حتّى أنّ الإحصائياتِ تشيرُ إلى نموِّ "إنترنت الأشياء" ليصلَ إلى حوالى 2.5 تريليون دولار عام 2029، وهو اقتصادٌ تهيمِن عليه شركات كبرى مثل "موكوسمارت" الصّينيّة و"بوش" الألمانيّة و"سيكو" الأميركيّة، وشركة "AWS" التّابعة لـ"أمازون"، وهناك عدّة شركات صاعدة في المجال، ويعتمدُ تطوُّرُها على حجمِ الاستثمار في مجالِ البحثِ العلمي وجلْبِ العقول؛ ولذلك توجّهت الشَّركات العالميّة مثل "غوغل" و"مايكروسوفت" و"أمازون" وغيرها، إلى تأسيسِ مراكزَ بحثيةٍ خاصّةٍ بها.
تُعتبرُ تكنولوجيا النّانو كذلك من المجالاتِ الجديدةِ في اقتصادِ المعرفة والتي تُحْدِثُ انقلابًا في الاقتصاد العالمي ولها تطبيقاتٌ عديدةٌ، في البناءِ والأسلحةِ والطبِّ والطّاقةِ والصيدلةِ والزِّراعةِ وتنقيةِ الهواءِ والمياهِ وتحسينِ كفاءةِ الأجهزةِ الإلكترونيّة. ومن الشّركات الكبرى المُهيمنة على مجال النانو تِكنولوجيا هناك شركة "تايوان لصناعة أشباه المواصلات" (TSMC) والشّركة القابضة (ASML) المتخصصة في صناعةِ الرَّقائِق، وشركة "الحراريّة فيشر العلميّة"، المتخصّصة في الضوئيّات الحيويّة وشركة "IBM" التي اخترعَت آلةً لتصويرِ الهياكلِ الذريَّة.
أصبحت الحربُ الاقتصادية أكثر شراسةً اليوم ومحورُها هو تطويعُ العلم لخدمة الاقتصاد
يبدو جليًّا اليوم أنَّ اقتصادَ المعرفة سيخلقُ من جديدٍ فَجْوَةً كبيرةً بين الدّولِ التي تملكُ سياساتٍ ناجعةً في مجالِ البحثِ العلمي وتسهرُ على استقطابِ العقولِ واستمالتِها وتوفيرِ البيئةِ المناسبةِ للإبداع، بالإضافةِ إلى امتلاكِ مخابراتٍ اقتصاديةٍ وعلميةٍ ومراصدَ متخصِّصةٍ في رصْدِ التحوّلاتِ المعرفيَّة ووعْيِ نُخَبِها الاقتصادية بالاستثمار في مجال اقتصادِ المعرفة، بخلاف الدّول التي ما زالت مرتبطةً بالنَّمَطِ التقليدي في الاقتصاد ولا تولي أهميةً لعلمائِها ولا توفِّرُ لهم حواضنَ علميّة وتحميهم من البيروقراطيةِ التي تقتل الإبداع.
لقد أصبحت الحربُ الاقتصادية التي انخرط فيها العالم منذ عقود، أكثر شراسةً اليوم، ومحورُها هو تطويعُ العلمِ لخدمةِ الاقتصادِ وابتكار منتجاتٍ تبهِر المستهلِكَ وتشكِّلُ ذوقَه باستمرار، إضافة إلى أنّها حربُ الأفكارِ وبراءة الاختراعاتِ والمعلومات.
(خاص "عروبة 22")