الحديثُ المتصاعدُ من تيارٍ مصريٍ يرى ضرورةَ أن تقطعَ القاهرة علاقتَها بمحيطِها العربي، وتختلقَ لنفسِها هويةً ما، بشكلٍ يتنكّرُ لميراثِ التّاريخ وروابطِ الجغرافيا، نموذجٌ لأصواتٍ متكرّرةٍ في مدنٍ عربيةٍ مختلفة، تدَّعي الرغبةَ في خلقِ هويةٍ نَقِيَّةٍ لمدنِهم وبلادِهم، وهو أمرٌ مستحيلٌ بأي مقياس، بل تنتهي إلى محضِ مَسْخٍ يَنْسحِقُ حضاريًّا أمام النَّموذجِ الأميركي الاستهلاكي المُهيمِن، ومن هنا أهميةُ التّأكيدِ على مركزيةِ القاهرة في قلبِ الثّقافةِ العربية، وتذكيرُ من ينسى تاريخَها العربي الذي لا يمكن مسحُهُ من الذّاكرة.
القاهرة تحوّلَت إلى الملجأ في زمن الصِّراعات والانكسارات والحاوية لتُراث العرب والحافظة له
مكانةُ القاهرة تكوَّنت عبر مسارٍ تاريخي جَمَعَت فيه الكثيرَ من معالمِ الحضورِ العربي، فهي بدايةً تأسَّسَت لتكونَ مقرًّا للخلافةِ الفاطميةِ العربيةِ، مدينة وُلِدَت تتحدّثُ العربية منذُ اللحظةِ الأولى، مثلُها في ذلك مثلُ البصرة والكوفة والفسطاط والقيروان وبغداد. وسريعًا، أصبحت القاهرة واحدةً من كبرى المدنِ في عالم العربِ والمسلمين، فالفاطميّون أرادوا لها أن تنافسَ بغداد، سياسيًّا وثقافيًّا وحضاريًّا، ونجحوا إلى حدٍّ كبير، فبدأت في مراكمةِ تُراثِها كمدينةٍ حاضرةٍ على خارطةِ الثّقافةِ العربية، وهو أمرٌ تأكَّدَ وتعمَّقَ مع الحُكْمِ الأيّوبي، ثم انفجرَ في اللحظةِ المملوكية.
القاهرة تحوّلَتْ إلى الملجأ في زمنِ الصِّراعاتِ والانكسارات، ففي وقتٍ دمَّرَ المَغولُ مشرقَ عالَمِ المسلمين، وتساقطَت مدنُ الأندلسِ أمامَ المدّ الإسباني، فَتَحَت القاهرةُ أبوابَها في العصر المَمَاليكي لاستقبالِ الجميع، تجدُ شخصيات من مختلفِ الجنسياتِ تعيش في المدينة، الأمرُ الذي جعلَها حقيقةً الحاويةَ لتُراثِ العرب والحافظة له، ربّما لهذا السببِ ازدهرَت الموسوعاتُ العلميّةُ والأدبيّةُ التي تجمع النّصوصَ العربيةَ القديمةَ في أعمالٍ متعدِّدَةِ الاهتمامات، بِغَرَضِ الحمايةِ أمام هجماتِ المَحو، النّموذج المهمُّ هنا موسوعة "نهاية الأرب في فنون الأدب" لشهاب الدّين النويري.
لم يكن غريبًا أن نجدَ ابن خلدون التّونسي الذي طافَ بلدانَ المغارب يهرب من الفوضى السِّياسية، ويستقرُّ في القاهرة التي عاش فيها ربعَ القرنِ الأخير من حياتِه، وفيها نقَّحَ عملَه الموسوعي الشّهير "العِبَر وديوان المبتدأ والخبر". قبلُه جاء أبو حيّان الغِرناطي واستقرَّ فيها ليؤسِّسَ مدرسةً نحويّةً ولغويّة، وهذا القرطبي إمامُ التفسيرِ يأتي إلى القاهرةِ ويقيمُ فيها قبل أن يسكنَ المِنيا في صعيدِ مصر، وسبق الجميع سلطانُ العلماء العزّ بن عبد السلام الذي غادرَ الشّام واستقرَّ في القاهرة، وكانت له المواقفُ المشهودةُ أمامَ سَلاطينِ المَمَاليك.
التّاريخُ القديمُ تمَّ ترميمُه دومًا عبْر مُنعطفاتِ الزَّمن، فمؤسَّسة "الأزهر" لعبَت دورَها في حمايةِ العربيةِ في العصرِ العُثماني، وقتَها استضافَت القاهرة قامةً بمستوى مُرتضى الزّبيدي، ومع انبلاجِ العصرِ الحديثِ لعبت القاهرة دورًا مِحوريًّا في النهضةِ العربيةِ يعرفُه القاصِي والدّانِي، تَعَزَّزَ أيضًا بأدوارٍ أخرى في مجالاتِ الموسيقى والطّربِ، وتلاوةِ القرآن، والسينما والتلفزيون، وبطبيعةِ الحال الشّعر والأدب والقصة والمسرح؛ نذكر هنا أسماء بحجم شوقي وحافظ، وأم كلثوم وعبد الوهاب، وطه حسين ونجيب محفوظ، وتوفيق الحكيم ويوسف إدريس.
نغمة نشاز لدعم تصوّرات لن تنتهي إلا بسلخ الشّعوب العربية عن هويتها لكي ترتديَ عباءةَ هويةٍ مُصطنعة
هذا الميراثُ المُتعدِّد الطّبقاتِ والمتراكمَ عبر محطّاتٍ تاريخيةٍ مختلفةٍ، لا يمكن التّعاملُ معهُ باستهانةٍ والتخلّص منه بحجّةِ البحثِ عن هويةٍ مصريةٍ جديدة، فالرّوابطُ التي تربطُ القاهرة بمحيطِها العربي من التحقُّقِ التّاريخي لدرجةٍ لا يُتَصوَّرُ التخلّي عنها عند أي محطّةٍ تاريخيةٍ، نعم ربّما لا تكون القاهرة في أحسن حالاتِها كمركزٍ للإنتاجِ الحضاري، لكن لا يعني هذا التخلّصَ من كينونتِها وسلْخِها لتكون مدينةً بلا روح، تتشكَّلُ على نغمة نشاز تدعو لخطابٍ يتنكَّرُ لمراحلَ تاريخيةٍ كاملة، لدعمِ تصوّراتٍ لن تنتهيَ إلّا بسلخِ الشّعوبِ العربيةِ عن هويتِها، لكي ترتديَ عباءةَ هويةٍ مُصطنعةٍ على مقاسِ الثّقافةِ الأميركية ونمطِها الاستهلاكي.
لا يعني ذلك دعوةً للانغلاق على الذّات والتشبُّث بالماضي، بل على العكسِ إنَّ دَرْسَ مدينةِ القاهرة التي نرى فيها معالمَ أثريةً مدهشةً نتيجةَ الانصِهارِ بين قيمٍ معماريةٍ مستوردةٍ من الشّرقِ والغرب، يقولُ لنا ببساطةٍ إنَّ شرطَ العطاءِ الحضاري هو الانفتاحُ والأخذُ والعطاء، لكن شَرْطَ الوقوفِ على أرضٍ صلبةٍ من المَعرفةِ بالذّات، وما لدينا من قيمٍ حضاريةٍ قابلةٍ للتطويرِ والحياةِ مع هضْمِ الجديدِ الآتي من الخارِج، كلّ ذلكَ على قاعدةِ الثّقافةِ العربيَّة.
(خاص "عروبة 22")