اقتصاد ومال

"المونديال" في الدول العربية: فرصة لتسريع النمو أم فخ اقتصادي؟ (1/2)

مرّة أخرى، نعودُ للحديثِ عن كأسِ العالم لكرة القدم، وذلك بعد أن تمّ خلال شهر ديسمبر/كانون الأول الماضي الإسنادُ الرّسمي لتنظيم نسخةِ سنة 2030 إلى المملكةِ المغربية برفقة كلّ من إسبانيا والبرتغال، وتأكيدُ استضافةِ المملكة العربية السّعودية لنسخة سنة 2034، وبالتّالي فإنّها ستكون ثالث استضافةٍ عربيةٍ لهذه الفعّاليات الرياضية العالمية في غضونٍ زمني قياسي لا يتجاوز اثنتي عشرة سنة، وهو ما يدفعُ باتّجاه طرحِ أسئلةٍ عديدةٍ حول توالِي وتسارُعِ وتيرةِ ترشُّح الدول العربية لتنظيم كأس العالم، فهل الباعثُ اقتصاديٌ محْض؟ أم أنّ الدّاعي يلامسُ جوانبَ أخرى قد تكون مُكَمِّلةً للبُعد الاقتصادي؟ قد نعلم بعضها ويغيب عنّا جُلّها!.

مهما كانت البواعثُ والدّواعي وراءَ المُسارعةِ لتنظيمِ هذا الحدثِ الرياضي العالمي، فإنَّ مسألةَ تحليلِها ورصْدِ أبعادِها ضروريٌ لفهمِ الواقعِ الاقتصادي الرّاهن للدّول المُضيفة، وتوقّعِ الأرباحِ المرْتقبة، واستشرافِ المخاطِر المحدقة بالنَّظرِ في مرآة التّجارب السّابقة أيضًا.

البواعث الاقتصادية... ميزان الرّبح والخسارة

لا يمكن الحديثُ عن تنظيمِ الدول العربيةِ لكأس العالم من دونِ استحضارِ الأنموذج الاقتصادي لكلّ دولةٍ على حِدَة، وإنْ كانت المملكة العربية السعوديّة ودولة قطر لا تعوّلان بشكلٍ كبيرٍ على العائدِ الاقتصادي لتنظيمِ هذه البطولة الدوليّة، بالنَّظرِ إلى استنادِ اقتصادِهما إلى مقوّماتٍ تجعلُ من إسهامِ اقتصاد الرياضةِ مجرّدَ عُنصرٍ هامشِي في مشهدِهما الاقتصادي، فإنَّ المملكةَ المغربيَّة بخلافِ ذلك تعوِّل بشكلٍ كبيرٍ على تنظيمِ هذهِ التّظاهرة، من أجل تحفيزِ نُمُوِّها الاقتصادي وتعزيزِ جاذبيتِها الاستثماريةِ وتجاوزِ عثراتِها الاقتصادية، وهو ما يُفسِّر سعيَها الحثيثَ منذ عقودٍ من أجل استضافةِ هذا الحدَث، الذي ترى فيه طوقَ نجاةٍ وفرصةً ذهبيةً من أجل مواجهةِ معضلاتٍ اقتصاديةٍ كبرى، في مقدمتِها البَطالة التي تجاوزت لأوّلِ مرّة في تاريخِ المملكةِ الرّاهن سقفَ 21%.

دولة قطر حققت عائدًا تجاوز 6 مليارات دولار في مقابل نفقاتٍ اقتربت من 220 مليار دولار

نقول هذا بصرْفِ النّظر عن التكاليفِ المُرْتقبةِ لتنظيم هذه النسخةِ المشتركة، والتي من المنتظرِ أن تُكلِّفَ خزينةَ المملكةِ أزْيَد من 5 مليارات دولار كاستثماراتٍ مباشِرةٍ وأزْيَد من 10 مليارات دولار كاستثماراتٍ غير مباشِرةٍ سوف تُضَخُّ في قطاعاتِ السياحةِ والنّقلِ والصحة. وفي هذا الصّدد، نودُّ الإشارة إلى أنَّ تطويرَ القطاعِ السِّكَكِي وحده، وإنجاز الخطّ فائقِ السُّرعة الذي سوف يربطُ مدينتَي طنجة وأكادير سيكلّف قرابةَ الثّمانية مليارات دولار، وهي الاستثمارات التي يُتَوَقَّعُ أن تخلقَ أزْيَد من 200 ألف منصبِ شغل في غضونِ السّنواتِ المقبلة، كما يُرْتَقَبُ أن تساهمَ في تطويرِ وتجويدِ البنيةِ التحتيّةِ وهو ما سوف يترتّبُ عليه رفع نِسَبِ النّمو خلال السنوات الخمس المقبلة ما بين 1% و3% وضخِّ ما بين 1.5 ومليارَيْ دولار في النَّاتج الإجمالي الخام، ناهيك عن تعزيزِ استقطابِ التدفّقاتِ الاستثماريةِ والسياحيةِ التي من شأنِها تحفيز النّمو وتسريع الانتقال الاقتصادي نحو اقتصادٍ تهيْمن عليه الصّناعة والخِدمات، عِوَضَ هيمنةِ القطاعِ الفلّاحِي الذي تسبَّبَ في تباطؤِ وتيرةِ النّمو بشكلٍ مقلقٍ خلال العقدِ الأخير بعد توالي أزَيْد من ستّ سنوات من الجَفاف.

لا يُعتقد أنّ نفقات تنظيم كأس العالم قد تُشكِّل إرهاقًا كبيرًا لموازنة السعودية مقارنةً بالمغرب

ويمكن إسقاطُ التوقّعاتِ الإيجابيةِ عينها على المملكةِ العربية السّعودية، بالنَّظر لِما تمَّ تحقيقُه من مكاسبَ اقتصاديةٍ خلال نسخة سنة 2022 التي سبق أن احتضنتها دولة قطر التي حققت عائدًا تجاوَزَ 6 مليارات دولار في مقابل نفقاتٍ اقتربت من 220 مليار دولار، وهي نفقاتٌ غير مسبوقةٍ تتجاوزُ العائدَ الاقتصادي المحقَّق بأضعافٍ كبيرة، وهو ما يؤكد أنَّ سعيَ قطر للاستضافة غيرُ معنيٍ بالبواعثِ الاقتصاديةِ أساسًا، شأنُها في ذلك شأنُ المملكةِ العربيةِ السّعودية التي لا يُعْتَقَدُ أنَّ نفقاتِ التنظيمِ قد تشكِّل إرهاقًا كبيرًا لموازنتِها مقارنةً بالمغرب، وهو يؤكدُ أنَّ البواعثَ الاقتصاديةَ لدى الدوحة والرّياض تتوارَى خلفَ البواعثِ السياسيةِ والديبلوماسية، وهي بواعث يمكن ترجمتُها اقتصاديًا من خلال جنيِ أرباحٍ على المديَيْن المتوسّطِ والبعيد، لأنَّ الإشعاعَ الذي يمنحُه تنظيمُ هذا الحدث العالمي يمكنُ توظيفُه في تعزيزِ صورة هذين البلدَيْن كوجهتَيْن استثماريتَيْن آمنتَيْن وواعدتَيْن، كما قد يُكرِّسُ صورةً إيجابيةً عن مدى انفتاحِهما وعن تنوّعِهما الحضاري والثّقافي، وهو ما قد يكونُ عنصر جذْبٍ أساسي لتطويرِ أداء القطاعِ السياحي وقطاعاتٍ خدماتيةٍ وتجاريةٍ أخرى.

الحديث عن الأبعاد الإيجابية لاستضافة كأس العالم يجب أن لا يبعدَنا كثيرًا عن الحديث عن المخاطر المرتقبة

عمومًا، مهما تعدَّدَت البواعث، فمسألةُ الرّبحِ الاقتصادي ستظل في مقدمتِها، والأكيدُ أنَّ كلّ المشاريعِ الضخمةِ التي سوف تُنجزُ من أجل استضافةِ كأس العالم، سواءٌ تعلّقَ الأمرُ ببناءِ الملاعب أو تهيئةِ مدنٍ ذكيةٍ أو تطويرِ شبكاتِ النّقل والخِدماتِ الصحيةِ والإدارية، ستنعكسُ إيجابًا على جودةِ الحياة، وستعزِّزُ جذْبَ الاستثماراتِ الأجنبيةِ وتضاعِفُ خلقَ وظائفَ طويلةِ الأجل، وهو ما سيمنحُ المغربَ فرصةً ذهبيةً من أجل إعادةِ التّوازنِ لاقتصادِهِ الذي أنهكَه تعاقبُ الأزمات، كما سيمنح قطر والسعودية فرصًا للارتقاءِ باقتصادهما إلى مستوياتٍ أعلى.

الحديث عن الأبعادِ الإيجابيةِ لاستضافةِ كأس العالم يجبُ أن لا يبعدَنا كثيرًا عن الحديثِ عن المخاطرِ المرتقبةِ، وهي مخاطرُ متنوعةٌ وقابلةٌ للتحقُّق، وهو ما سوف نعمل على رصْدِه وتحليلِه في الجزء الثّاني من هذا المقال. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن