تقدير موقف

بل لم تنتهِ "الحرب"

هدنةٌ، أم وقفُ إطلاقِ نار؟ قد يختلفُ القانونيّون في تعريفِ ما تمَّ التوصُّل إليه من اتفاقٍ تلكَّأَ لأكثر من عامٍ بين إسرائيل (المُراوِغةِ بطبيعتِها)، والمقاومة الفلسطينيّة (المنهكة؛ بحكْمِ خذلانِ الأشقاء، وتواطؤِ الأعداء، ووحشيةِ الآلةِ الحربيّة الإسرائيليّة)، وقد يتبارى الوسطاءُ في التَّأكيدِ الإعلامي على دورِهم في إبرامِ الاتفاق، وقد يبادِرُ بعض العرب إلى التَّعبيرِ عن ابتهاجِهِم لما يعتبرونَهُ "هزيمةً" تَمَنّوها لـ"حماس"، على الرَّغمِ من الاعترافِ الإسرائيلِي بأنَّ نتنياهو لم يحقِّقْ أيًّا مِن أهدافِهِ المعلنةِ مِنَ الحرب، ثمَّ إنَّنَا قد نجلسُ لنشاهدَ على التلفاز طوابيرَ الفلسطينيّين العائدِين إلى منازلِهِم "المُدمَّرة" حاملينَ أعلام الوطن (والمقاومة)، إلّا أنَّ هذا كلّه لا يعني بحالٍ أنَّ الحربَ قد انتهَت.

بل لم تنتهِ

إرضاءً لترامب، الذي تُراهنُ على انحيازِه المطلقِ لأطماعِها التوسُّعيَّة، وحتَّى تسمحَ له بالمزايدةِ على سلفِهِ في خطابِ التَّنصيب، وافقَت إسرائيل على اتّفاقٍ كان قد بَدَأَ التّفاوضُ (اليومي تقريبًا) حول تفاصيلِهِ قبل تسعةِ أشهرٍ كاملة.

بعد ساعاتٍ من الاتّفاق، وبعد المشاهدِ الدالّة لتسليمِ الأسرى الإسرائيليّين في ساحة السّرايا، قالت افتتاحية "هآرتس": "يُخطِئُ من يَتَوَهَّمُ أنَّ اجتثاثَ حماس وارِد". ولعلّي أضيفُ إلى ما قالتْهُ الصحيفةُ الإسرائيليةُ: ويخطِئُ من يَتَوَهَّمُ أنَّ إسرائيل ستتوقَّفُ عن الحربِ لو تمكّنَت من اجتثاثِ حماس. أوْ القضاءِ التَّامّ على قدراتِ "حزب الله" كما يعتقِد، أو يروِّجُ، البعض. في التّاريخِ الذي ما زِلْنَا نذكرُهُ أنَّ إسرائيل حاربَت الفلسطينيّين من ثلاثينيّات القرنِ الماضي ولم تكُنْ هناكَ حماس، وغَزَت لبنان واجتاحَت العاصمة بيروت في يونيو/حزيران 1982 ولم يكُن "حزب الله" قد ظهرَ بعد. وفي الحاضرِ الذي ما زِلنا نعيشُهُ اجتياحاتٍ إسرائيليةً يوميةً لمدنِ وبلداتِ الضَّفَّةِ الغربيَّة، وعصابات المستوطِنين (المستعمِرين) تنشرُ الرُّعْبَ، حيث "سلطة أوسلو" بلا سلطة، وحيث لا علاقة لتُكَأَةِ "السّابِع من أكتوبر/تشرين الاول" بالأمْر.

نتنياهو قال ألف مرَّة إنَّه سيعود إلى الحرب بعد أن يعودَ الإسرائيليّون وساعتَها لن تعوزَهُ الحُجّةُ لينتهِكَ ما اتُّفِقَ عليه

لم تنتهِ الحرب، التي يتنافسُ ترامب مع بايدن على مَنْ له الفضلُ في إنهائِها. بالمناسبة، هُم لم يتحدّثُوا عن "نهايةِ الحرب"، كما لا يعنيهم غزَّة أو الفلسطينيّون. هم يتحدّثون عن عودةِ الأسرى (يسمّونهُم "الرَّهائن"). ففضلًا عن أنَّ ترامب في مؤتمرِه الصحافي الأوَّل قال إنّه لا يعتقدُ أنَّ الحربَ قد انتهَت، قال نتنياهو ألف مرَّةٍ إنَّه سيعودُ إليها بعد أن يعودَ الإسرائيليّون إلى بيوتِهِم. وساعتَها لن تعوزَهُ الحُجّةُ لينتهِكَ ما اتُّفِقَ عليه. فمثلُه لم يتردَّدْ في احتلالِ جنودِه محوَرَ صلاح الدّين (فيلادلفيا) منتهِكًا اتفاقاتِ السَّلام مع مصر، على الرَّغم من رمزيَّةِ كونِها "الأولى" مع العرب.

"لم تنتهِ الحرب". وبالمناسبةِ، أنا هنا لا أتحدّثُ عن الحربِ على غزَّة، فهيَ لم تتوقَّفْ يومًا منذُ النَّكبةِ، على الرَّغم من أكذوبةِ أنَّها بدأت بما جرَى في السَّابع من أكتوبر/تشرين الاول. كما لا أتحدّثُ حَصْرًا عن الحربِ على الفلسطينيّين، فها هي مستمرًّة كما كانت دائمًا في الضّفّة. أنا أتحدَّثُ عن الصِّراعِ العربي - الإسرائيلي، بمعناه الأوسعِ والذي عرفناه منذ جاءَت مراكبُ المهاجرِين (الصَّهاينة) إلى هذه الأرض.

يخطِئُ من يعتقِدُ، أو يحاولُ أن يجعلَنَا نعتقدُ، أنَّ إلقاءَ السّلاح، ورَفْعَ غُصْنِ الزَّيتون، أو حتَّى رفع الرَّاية البيضاء من جانب الفلسطينيّين أو غيرِهم من العرب كفيلٌ بإنهاءِ الحرب. فعلَهَا ياسر عرفات، صَادِقًا ومُخْلِصًا قبل خمسين عامًا كاملةً حين ذهب إلى الأمم المتّحدة (1974) رافعًا غُصْنَ الزَّيتون، فأسقطَهُ، واقعيًّا الإسرائيليّون. ثم فعلَها ثانيةً حين ذهبَ إلى أوسلو ليتخلّى عن حلمِه القديم "من البحرِ إلى النهر؛ دولة ديموقراطية واحدة لجميع مواطنيها من العربِ واليهودِ والمسلمين والمسيحيّين"، مكتفيًا بوعدٍ بدولةٍ على جزءٍ من أرضِ فلسطين التاريخيَّة؛ لا يتعدى الـ50% ممّا كان قد وَرَدَ في قرار التَّقسيم الشهير 1947، وعلى أن تقومَ تلكَ "الدولة" خلالَ خمسِ سنواتٍ من مفاوضاتِ "الحل النهائي"، فمرَّت ثلاثون عامًا من دون دولةٍ ومن دون حلٍّ نهائي، إلّا ما رأيناهُ على الشَّاشات في غزَّة، مستلهمًا "الحلَّ النّهائي" الذي عرفناه كمصطلحٍ دموي في ألمانيا النّّازِيَّة أربعينيّات القرن الماضي.

هل ننسى أنَّ "مسار" أوسلو لم يُفْضِ إلى شيء أليْسَ من الحكمة ألّا نبادرَ إلى مكافأةِ الإسرائيليّين على ما لم يفعلوه؟

فضلًا عن خرائطِ نتنياهو للهيمنةِ على الإقليمِ بأكملِه، تحتَ عنوانِ "الشّرقِ الأوسطِ الجديد"، والتي أّرْبَكَها، وإنْ لبعضِ الوقت "فيتو المقاومة" في السَّابع من أكتوبر/تشرين الاوّل، لم يُخْفِ الإسرائيليّون أبدًا، في تصريحاتهِم "الرّسمية"، أو أفعالهِم على الأرضِ نيّتَهُم في تهويدِ وضمّ الضَّفَّةِ الغربيَّة "المحتلّة"، أو "يهودا والسامرة" كما يحرُصون على تسميتِها، كما لم يُخْفُوا أبدًا رفضَهم "القديم والثابت" لقيامِ دولةٍ فلسطينية، أو أنَّهم لم يعودوا يعترفون بأوسلو. كما أنَّ أفكارَهم بشأن غزَّة وسيناء معلنةٌ ومنشورة. دعكَ من الحديثِ "اللاديبلوماسي" لمسؤولينَ وزعماء سياسيّين عن "إسرائيل الكبرى"، هل سمعتم السيد ترامب (وهوَ من هوَ) يقول إنَّ مساحةَ إسرائيل أصغرُ ممّا ينبغي... "وإنَّه سيعملُ على تصحيحِ هذا الوضعِ"؟ وهل سمعتُم سفيره إلى الدولةِ العبريّة وهو يقول: "إذا كان لا بدَّ من إنشاءِ دولةٍ فلسطينيةٍ، فيجبُ أن تكونَ في دولٍ مجاورة مثل مصر أو الأردن، وليسَ داخلَ حدودِ إسرائيل؟!".

هل هذا هو السّلام؟ وهل هذا كلّه ممّا يمكنُ تجاهلُه والمِضِي قُدُمًا (خلْفَ) السِّمسَار الأميركي لاستكمالِ اتّفاقاتِ التّطبيعِ، تحت لافتةٍ، ندركُ زيفَها تقولُ إنَّ السّلامَ "آتٍ"، أو إنّنَا على "مسارٍ" يُفضِي إلى دولةٍ فلسطينية؟ هل من الحكمةِ أن ننسى أنَّ مثلَ هذا "المسار" الذي سبقَ اعتمادُه في أوسلو، والذي كانَ من المفترضِ أن يُفضيَ خلال خمسِ سنواتٍ لا أكثر إلى دولةٍ فلسطينيةٍ، لم يُفْضِ إلى شيء؟ أليْسَ من الحكمةِ ألّا نبادرَ إلى مكافأةِ الإسرائيليّين على ما لم يفعلوهُ بعد (وبالأحرَى لن يفعلوه أبدًا)؟.

لا عاقل إلّا ويريدُ السّلام، العرب أعلنوه "خيارًا استراتيجيًّا" في بيروت قبل عقدَيْن من الزَّمان، بتبنّيهم مبادرةَ الملك عبد الله؛ العاهِل السّعودي. ولكنَّهم أيضًا أعلنوا "الشروطَ" التي لا يكونُ السَّلامُ حقيقيًّا إلّا باكتمالِها. ولا أحسبُني بحاجةٍ إلى تذكيرِ أصحابِ المبادرة بالقاعدةِ الأصوليَّة: "ما لا يتمُّ الواجبُ إلّا به فهوُ واجب".

لم تكن مصادفة أنَّ "الخِتْيَارَ" عندما ذهب إلى الأمم المتّحدة حاملًا غصنَ الزّيتون لم يخلَعْ بزَّتَه العسكريّة

يومَها كان الردُّ الإسرائيلي على مبادرةِ السلامِ (العربية) تلك عمليًا، منعوا ياسر عرفات (المعني الأوَّل بالقضية) من حضورِ القمّة، وحاصروه في "المقاطعة" لثلاثِ سنواتٍ كاملة. ولم يسمحوا له بالخروجِ إلّا في الطريقِ واقعيًّا إلى قبرِه، ليدفنوا معهُ كلّ احتمالٍ لسلامٍ يستندُ إلى المقاومة وتوازُن القوى.

ربَّما كان تزامنُ حصارِ المقاطعة مع قمَّةِ السّلام البيروتيّةِ مجرّدَ مصادفة، ولكنّها لم تكن أبدًا مصادفة أنَّ "الخِتْيَارَ" عندما ذهبَ (بتجربتِه، ومعرفتِه بالعدوّ) إلى الأممِ المتّحدة (1974) حاملًا غصنَ الزّيتون، لم يخلَعْ بزَّتَه العسكريّة. بل كانَت رسالتُهُ (مخاوفُه) واضحةً: "لا تُسْقِطُوا غصنَ الزّيتونِ من يدِي".

ها قد أسقطوه بدل المرَّةِ، ألف مرّة أبا عمّار. فعسَى أن يكونَ هناك، من أصحابِ الحلّ والعقْدِ، من يراهُ قد سَقَط. 

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن