إنّ أغلب برامج الأحزاب السياسية والمنظمات الجماهيرية العربية تتضمّن مطلب الوحدة العربية، إلا أنّ نضال تلك المؤسسات من أجل تجسيد تلك الفكرة، والنضال من أجلها بأشكال مختلفة، يظلّ محدودًا حتى لا نقول غائبًا أو منعدمًا.
ومن مظاهر تراجع الاهتمام بمسألة الوحدة العربية وتجذيرها تقلّص المؤتمرات والدوريات المختصّة بشؤون العروبة وتعميم فكرة الوحدة. فخلال السبعينيات والثمانينات من القرن الماضي تعدّدت المؤتمرات والندوات ذات العلاقة بالوحدة كما تعدّدت وتنوّعت الدوريات ذات الاهتمام بتلك الفكرة والقضايا المرتبطة بها.
غير أنّ البعض منها سريعًا ما احتجب مثل مجلة "دراسات عربية"، ومجلة "قضايا عربية"، ومجلة "الفكر العربي"، ومجلة "الوحدة"، التي كان يُصدرها المجلس القومي للثقافة العربية، الذي تجمّد نشاطه أو توقّف نهائيًا بدوره. وظلّ مركز دراسات الوحدة العربية مستمرًا صامدًا ثابتًا، أمام "الرياح العاتية" التي تواجه استمراره.
تجربة القوميين في الحكم كانت من بين العوامل الأساسية التي شوّهت نُبْل الفكرة
ومن مظاهر تراجع الاهتمام بقضية الوحدة العربية أيضًا، محدودية المواقع ذات الاهتمام بتلك القضية في الشبكة العنكبوتية. فعددها يبدو محدودًا مقارنةً بمواقع ذات اهتمامات سياسية أو فكرية عامة أو قُطرية.
أما نشاط الاتحادات والمنظمات العربية الرسمية وشبه الرسمية ذات الطابع الوحدوي أو الحامل لصفة العروبة، فتقلّص إلى حدّ كبير وتحوّل اهتمام أغلبها إلى قضايا لا علاقة لها بالأهداف التي تأسّست من أجلها وتحوّلت إلى شبه نوادٍ للتعارف والعلاقات العامة، مما ساهم في عدم تفعيل وتطوير الصيغ الوحدوية العربية الإقليمية حتى في الحد الأدنى المُتفق عليه، مثل اتحاد المغرب العربي ومجلس التعاون الخليجي، وهو أحد مؤشرات تراجع الاهتمام الرسمي بالوحدة العربية في صيغها الدنيا.
لا شكّ أنّ أسباب هذا التراجع كثيرة وحُرّر فيها الكثير أيضًا، غير أنّ هناك شبه إجماع من قِبل الباحثين أنّ ذلك يعود أساسًا إلى إحباط الإنسان العربي من مثالية الخطاب القومي العربي التقليدي الذي كان ينادي بأمة عربية واحدة تتوحّد في كيان سياسي واحد، وتجاهله لحقائق الجغرافيا واعتبارات الواقع والتاريخ، الأمر الذي أدّى إلى فشل جميع التجارب الوحدوية. كما أساءت بعض الدعوات أو التجارب الارتجالية للوحدة والاتحاد للفكرة. أما تجربة القوميين في الحكم فكانت من بين العوامل الأساسية التي شوّهت نُبْل الفكرة.
إذ لم تسع تلك الأنظمة التي حكمت أقطارها لفترات طويلة إلى إنجاز الحدّ الادنى من التنسيق من أجل الاتحاد والوحدة في ما بينها، فلا العراق مثلًا أقدم على ذلك ولا سوريا، برغم انتساب النظامين لمرجعية فكرية واحدة، مما دفع الكثير من المواطنين العرب المؤمنين بالوحدة التشكيك في مبدأ الوحدة، ناهيك عن جدواها. فهذه الأنظمة التي رفعت شعارات الاشتراكية والوحدة والحرية لم تمارس غير عكس ما بشّرت به. فعوض العمل من أجل تحقيق الوحدة كرّست التجزئة، وعوض بناء النظام الاشتراكي والرفاه الاجتماعي كرّست الفقر، وعوض الحرية أشاعت الخوف ولاحقت الشرفاء والوطنيين والوحدويين.
أما التجربة الوحدوية القصيرة جدًا التي تمّت سنة 1979 بين القُطرين الشقيقين، فقد انتهت بمجزرة دموية بشعة لا مُبرّر لها حسب الكثير من الملاحظين والمؤمنين بالوحدة العربية. لذلك مثّلت تجربة القوميين في الحكم عائقًا أمام تكريس مشروع الوحدة بأبعاده المختلفة وساهمت إلى حدّ بعيد في ابتعاد قطاع واسع من الوحدويين عن الأحزاب القومية وأحياناً عن الفكرة في حد ذاتها والالتجاء إلى إيديولوجيات أخرى، تبدو أكثر جاذبية، بالرغم من طوبائيتها.
الوحدة بأشكالها وأنواعها المختلفة هي الأكثر قدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية
إن عدم الإقرار بهذا الواقع تشخيصًا وتحليلًا لا يساعد على بناء تصوّرات عملية وناجعة لمستقبل الوحدة العربية. فالاكتفاء بنقد النصوص والأطروحات القومية وحتى التجارب الوحدوية ومراجعتها هو عمل جوهريّ دون شكّ، لكن رصد مدى اهتمام العرب بالفكرة ودرجة الاستعداد للنضال من أجل تحقيقها يظلّ مدخلًا إجرائيًا ومنهجيًا ضروريًا يساعد على معالجة القضايا الأساسية.
كما تتطلّب فكرة الوحدة من المؤمنين بها، من جميع المدارس الفكرية والسياسية، البحث العميق لتحديد الوسائل والطرق والبدائل التي من شأنها أن تساعد على "ترميم" تلك الفكرة وتطويرها، وبعث الروح فيها، وتحويلها إلى هدف وأمل وطموح يتعلّق به المواطن العربي ويسعى للنضال من أجل تحقيقه لاعتبارات عدة، أقلّها إنّ الوحدة بأشكالها وأنواعها المختلفة هي الأكثر قدرة على تجاوز الأزمات الاقتصادية والاجتماعية التي عرفتها، وهذا معطى أكدته كل التجارب عبر التاريخ.
(خاص "عروبة 22")