من يتابع تراجُع إسرائيل عن بعضِ مكتسباتِها سوف يجد أنه لم يتمّ إلّا بتوظيف القوّة ضدّها، كما في الانسحاب من سيناء بعد حرب أكتوبر/تشرين الأول 1973 وجنوب لبنان في 2000، وقطاع غزّة في 2005، وعدا هذا فإنّ إسرائيل بَدَت في الـ14 شهرًا الأخيرة في "أبهى حلّة" كدولةٍ عاصِيةٍ بامتياز.
وإذا كانت قد تعلّلَت في البداية فيما أعملته في غزَّة من قتلٍ وتدميرٍ بحقّ الدّفاع عن النّفس فإنّ تجاوزاتِها في تطبيقِ هذا الحقّ، إنْ جازَ وجوده أصلًا، قد فاقت الحدودَ لدرجة أنَّ جنوب أفريقيا رفعت دعوى إبادةٍ جماعيةٍ ضدّ إسرائيل في "محكمة العدل الدولية" انضمّ إليها عددٌ من الدول. وعلى الرَّغمِ من أنّ المحكمةَ لم تفْصِل حتّى الآن في الدعوى فإنَّها أصدرَت قراراتٍ ببعضِ الإجراءاتِ الاحترازيّة التي لم تستجِب لها إسرائيل، كما أنَّ "المحكمة الجنائيّة الدوليّة" أصدرت في نوفمبر/تشرين الثاني الماضي مذكرتَيّ اعتقال بحقّ رئيس الوزراء الإسرائيلي ووزير دفاعِه السابق.
الدعم الأميركي المُطلق لإسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا وديبلوماسيًّا يتكفّل بتحصين سلوكها دوليًّا
غير أنَّ الإمعانَ الإسرائيلي في الانفلاتِ من قراراتِ الشرعيّة الدّوليّة امتدَّ إلى الالتزاماتِ التي ارتضَت بها إسرائيل بمحضِ إرادتِها، وقد بدأ الأمرُ بانتهاكِ اتفاقِ "ممرّ صلاح الدين" مع مصر بحجةٍ يعلمُ الجميع زيفَها بمن فيهم قادة عسكريّون إسرائيليّون، وهي أنَّ الممرَّ هو الرّئةُ التي تتنفّس بها "حماس"، بدعوى أنَّ الأسلحةَ والأموالَ تتدفّق عبرَه من سيناء لغزّة. ثمَّ امتدَّ لسوريا بعد إسقاط نظام الأسد بتحلّلِ نتنياهو على الفور من اتفاق "فضّ الاشتباك" بين سوريا وإسرائيل لعام 1974، واحتلال المنطقة العازلة التي نصّ عليها، بل واحتلال الموقع العسكري السوري في جبل الشّيخ، والتوغُّل فيما وراء المنطقةِ العازلة، وتدمير الجيش السوري بقوّاته البريّة والبحريّة والجويّة ومخزونِ صواريخِه وصناعاتِه العسكريّة ومراكز أبحاثِه، بحجّةِ أنَّ هذه القدراتِ العسكريّة ستكون بحوزةِ من لا تأمَن إسرائيل توجّهاتهم، مع أنَّ حكامَ دمشقَ الجُدُد لم يدّخروا وسعًا في إظهارِ نواياهم السلميّة تجاهها، وهو ما يؤسِّس لعقيدةٍ عسكريةٍ خطيرةٍ مفادها بأنَّ دولةً ما يمكنها أن تُصْدِرَ أحكامًا على نوايا الحكام الجُدُد لدولةٍ مجاورة، وتتصرّف بالتالي نحوَها بما يتناسبُ مع الهواجِسِ الأمنيّة، فتقوم بتدميرِ قدراتِها العسكرية، جاعلةً نفسها خصمًا وحَكَمًا ومُنَفِّذًا في الوقت عينه.
ثم يستمرُّ انتهاكُ إسرائيل لالتزاماتِها الدّولية بعدم التزامِها بمهلة الـ60 يومًا التي تنسحبُ خلالها من الجنوب اللبناني تمامًا، وها هي تحاولُ الآن بشتّى السُّبل اختلاقَ الذّرائع لتعطيلِ تنفيذِ الهدنةِ الثانيةِ في غزّة التي تمّ التوصُّل إليها بعد أكثر من سنة من المفاوضَات الشاقّةِ التي فعل فيها نتنياهو المستحيل لوضعِ العصِي في عجلةِ المفاوضات. كما أنَّ تصريحاتِ قادة التطرّف الإسرائيلي لا تكلّ ولا تملّ من ترديد مقولةِ استئنافِ الحرب على غزَّة بمجرد استكمال تحرير الأسرى والرّهائن الإسرائيليّين.
ويتصوَّرُ البعض أنَّ هذا السلوكَ الإسرائيلي المستهين بالقانونِ الدّولي والشرعيّة الدّولية مرتبطٌ بحكوماتِ إسرائيل المتطرّفة التي تُعَدُّ الحكومةُ الحالية أشدّها تطرّفًا، وهو تصوّرٌ لا أساسَ له من الصحّة، فالفارقُ بين هذه الحكومات وما يُسمَّى بحكوماتِ المعتدلِين أو الحمائم فارقٌ في الدّرجةِ لا غير، كما أنَّ المعتدلين يأتون بأفكارٍ خبيثةٍ ظاهرُها الاعتدال وباطنُها الالتفاف على النّضال الفلسطيني، كما حدث في "اتفاقية أوسلو" التي تجاوزَ عمرها ثلاثة عقودٍ وما زِلنا في المربّع صفر. بالإضافةِ إلى أنّ تعاقُبَ الحكْمِ بين من يُسَمَّون بالمُعتدلين والمتطرّفين يتكفّلُ بإجهاضِ أي أمل في التقدّم على طريق تسويةٍ حقيقيّةٍ للقضيّة الفلسطينيّة، كما حدث بوصول نتنياهو إلى الحكم في 1996 بعد 3 سنوات فقط من توقيعِ اتفاقيّة أوسلو، ويُضاف إلى هذا أنَّ الدعمَ الأميركي المُطلق لإسرائيل عسكريًّا واقتصاديًّا وديبلوماسيًّا يتكفّل بتحصينِ سلوكها دوليًّا.
يبدو الموقف العربي عاجزًا عن التّأثير لعدم الاتفاق على استراتيجيّة واحدة محدَّدَة
ولا مفرَّ من القولِ إنّ التّصدي لهذا السلوك فلسطينيًّا وعربيًّا هو البديلُ الوحيدُ الذي يُمْكنُ أن يُعَزَّز من قوى دولية وقطاعاتِ الرّأي العام العالمي، بما في ذلك الرّأي العام الأميركي، التي ازداد فهمُها للقضيةِ الفلسطينيةِ وتحسّنت توجهاتُها إزاءَها بعد صمودِ المقاومةِ وتجاوزِ جرائمِ الحرب الإسرائيليّة كلّ الحدود.
ويبدو الموقفُ العربي عاجزًا عن التّأثيرِ بشكلٍ لافتٍ، لعدمِ الاتفاقِ على استراتيجيّةٍ واحدةٍ محدّدَةٍ في هذا الشّأن، وإذا كان النّكوصُ العربي عن اتخاذِ إجراءاتٍ عقابيةٍ ضدّ إسرائيل مفهومًا، فإنَّ العجزَ حتّى عن ملاحقةِ إسرائيل في المحافِل الدوليّة يبدو مُحزنًا.
(خاص "عروبة 22")