اقتصاد ومال

أنماط الإصلاح الاقتصادي (2/2)الرأسمالية إصلاح استبدالي أنهى الركود الإقطاعي وتحوّل لمنتج للأزمات الدورية

يُعَدُّ التحوّل من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي وإرساء أُسُس اقتصاد السوق الرأسمالي، إصلاحًا اقتصاديًا جبّارًا نقل اقتصادات الدول التي حدث فيها ذلك التحوّل والاقتصاد العالمي بأسره، من الركود الإقطاعي الطويل الأجل، وعالم الإنتاج للاستهلاك فيما سُمّي بالاقتصاد الطبيعي، إلى عالم الإنتاج للتبادل عبر ثورةٍ زراعيةٍ في أنماط الملكية وعلاقات وأدوات الإنتاج واستخدام العلم في تطوير الإنتاج والإنتاجيّة، وثورة صناعية نقلت الصناعة من الورش اليدوية أو الآلية البدائية إلى الصناعة الحديثة والتجميع الصناعي، ونقلت المجتمعات من الاستبداد السياسي الإقطاعي إلى الديموقراطية السياسية التي تظلّ في النهاية ديموقراطيةً تكرّس هيمنة واستحواذ طبقة رأسمالية مُهيمنة على اقتصاد وأقدار الأمّة.

أنماط الإصلاح الاقتصادي (2/2)
الرأسمالية إصلاح استبدالي أنهى الركود الإقطاعي وتحوّل لمنتج للأزمات الدورية

كما نقل ذلك التحوّل الإحلالي من النظام الإقطاعي إلى النظام الرأسمالي، اقتصادات الدول التي جرى فيها هذا التحوّل من دورات النموّ البطيئة ومستويات المعيشة الجامدة، والإنتاج لتلبية الحاجات المحلية، إلى مرحلة تاريخية جديدة من الحراك الاقتصادي السريع، والتبادل التجاري الكثيف بين الدول، وارتفاع مستويات المعيشة عمومًا مع استمرار وتفاقم التفاوت الرهيب بين الطبقات.

وفي الوطن العربي تعاني كلّ دوله تقريبًا من التباس التحديث الرأسمالي، حيث يجري الاعتماد على استيراد التحديث التقني بدرجاتٍ متفاوتةٍ من دولةٍ إلى أخرى، من دون إعادة الإنتاج والتطوير كما فعل الشرق الأقصى، ومن دون التحديث القيمي، ومن دون بناء ديموقراطية سياسية حقيقيّة، حيث يغطّي الاستبداد السياسي الخريطة العربية إلّا قليلًا، لذا يظلّ العالم العربي خليطًا من أنماط اقتصادية - اجتماعية رأسمالية وما قبل رأسمالية عمومًا، وهو نموذج غير قابل للتطوّر إلّا بتغييره جذريًا.

كيف تحوّل النظام الرأسمالي من ثورة اقتصادية - اجتماعية إلى منتجٍ للأزمات؟

على الرَّغم من الفتح الاقتصادي الذي شكّله انتقال العالم من عصر الإقطاع إلى عصر الرأسمالية والذي يُعدّ ثورةً اقتصاديةً - اجتماعيةً عُظمى، إلّا أنّ النظام الرأسمالي تحوّل تدريجيًا إلى منتجٍ للأزمات الدوريّة، خلافًا للفكر المؤسّس لذلك النظام والذي كان يرى أنّ هناك حتميةً للتوازن بين العرض والطلب. وكانت هناك صياغة واسعة الانتشار في القرن التاسع عشر لذلك الاعتقاد الرأسمالي تتمثّل في مقولة جان باتيست ساي (Jean Baptiste Say) الذي كان يُقدّس الحرية الاقتصادية ومبدأ "دعه يعمل دعه يمر"، والذي ابتكر ما سُمّي بـ"قانون ساي" الذي يذهب إلى أنّ "العرض يخلق الطلب المساوي له"، أو بصيغةٍ أخرى، "الإنتاج هو الذي يفتح المنافذ للمنتجات"، وهو استنتاج قائم على أساس أنّ الادّخار يتحوّل كلّيًا إلى استثمار، مُتجاهلًا حقيقة أنّ جزءًا مهمًّا منه يظلّ مكتنزًا ولا يتحوّل لاستثمارات. كما كان يجزم بعدم إمكانية حدوث دورات الركود.

الرأسمالية كنظام اجتماعي - اقتصادي تولّد وبشكل شبه منتظم الاضطرابات الدورية للإنتاج

لكنّ توالي الأزمات الدورية في الاقتصادات الرأسمالية الكبرى والنامية في الواقع العملي، أجبر المفكّرين الرأسماليين على الإقرار بوجود دورات الرّكود. لكنّهم قدّموا تفسيراتٍ لها أشارت ببساطةٍ إلى بعض الأسباب الجزئية الفردية، ولم يستطع واحد من الاقتصاديين البورجوازيين أن يرتفع إلى حدّ إدراك أنّ الرأسمالية، كنظام اجتماعي – اقتصادي، هي التي تولّد وبشكل شبه منتظم، الاضطرابات الدورية للإنتاج. وكان اكتشاف الدورة الاقتصادية في النموذج الرأسمالي، والمَيْل الحتمي لمعدّل الربح للانخفاض نتيجة تغيّر التكوين العضوي لرأس المال، والتزايد المُستمرّ لنسبة رأس المال الثابت من إجماليّ رأس المال، اتّساقًا مع التطوّر التقني، أحد إسهامات ماركس في علم الاقتصاد التي كان هو نفسه يعتزّ بها.

الأسباب المتنوّعة للأزمات الدورية

تنتج الأزمات الدورية أحيانًا نتيجة تراكم رأس المال بلا توظيف (يُعتبر مخزونًا من مختلف عناصر الإنتاج التي استخدمت لإنتاجه)، أو تراكم السلع المخزونة الرّاكدة بلا تصريف بسبب قصور الطلب المحلّي عن ملاحقة الإنتاج نتيجة سوء توزيع الدخل، بما يكبح نموّ الطلب الفعّال ويُخلّ بالتوازن بين معدّلات نموّه، ومعدّلات نموّ الإنتاج. وأحيانًا، نتيجة قصور الطلب الخارجي على السلع التي تُنتجها الاقتصادات المُوجّهة للتصدير نتيجة ظروف وتوجّهات الاقتصادات المستوردة لتلك الصادرات، أو نتيجة الإفراط في الإقراض للتمويل العقاري وتمويل شراء السلع المعمّرة، بلا ضوابط أو معايير تضمن استعادة القروض، بما يخلق موجاتٍ من التعثّر تقود شركات إنتاج العقارات والسلع المُعمّرة إلى التعثّر، وتجذب معها الجهاز المصرفي المُقرِض للمتعثّرين إلى الهاوية. أو نتيجة الإفراط في تداول الديون والسلع من خلال المشتقّات بما يعمّق ويوسّع سلسلة الانهيارات عندما تتداعى إحدى حلقات سلسلة الإنتاج والاستهلاك والتمويل.

وقد تصل دورة الرّكود الدوريّة في بعض الأحيان إلى مستوياتٍ هائلةٍ قادرةٍ على تدمير النظام بأكمله، إذا توفّرت القوى الاقتصادية - الاجتماعية القادرة على دفعه من ذروة أزماته إلى متحف التاريخ.

عندما تتوحّش الأزمة الدورية... الكساد العظيم الأول والثاني

يُعَدّ الكساد العظيم الأول (1929-1933) والكساد العظيم الثاني (2008-2013) نموذجَيْن لتوحّش الأزمة الدورية للاقتصادات الرأسمالية. وكلّ منهما كان قادرًا على تحطيم النظام الرأسمالي لو توفّر الوعي الاجتماعي - السياسي لإزالة ذلك النظام، بعد أن أصبح أشدّ ظلمًا وفسادًا، وعائقًا حقيقيًّا أمام استدامة النموّ والتطوّر وإقامة العدالة، وأيضًا لو كان هناك نظامٌ منافسٌ قادر على استغلال الأزمة وإسقاط النظام الرأسمالي.

وقد أدّت تلك الأزمات وبخاصةٍ الكساد العظيم الأول، إلى ظهور نموذج الإصلاح الاقتصادي الذي استهدف إصلاح اختلالات النظام الرأسمالي نفسه وإطالة عمره، وهو الإصلاح الاقتصادي المبني على أفكار جون مينارد كينز (John Maynard Keynes).

الديموقراطية الاجتماعية والسياسية الحقيقية تُشكّلها القوى المُنتجة لتعبّر بحرية عن مصالح الأمّة

كما ظهر نموذج ثوري إحلالي هو النموذج الاشتراكي الذي استهدف بناء نظامٍ اقتصاديّ - اجتماعيّ بديل، معتبرًا أنّ النظام الرأسمالي قائم على الظلم الاجتماعي المعوّق للتنمية ولاستدامة النموّ الاقتصادي ولقوى الإنتاج، وأنّه نظام ميئوس من إصلاح اختلالاته، ويستحقّ الإنهاء لبناء نظام اشتراكي بديل يرتكز على الملكية الاجتماعية لوسائل الإنتاج، والتحكّم في توزيع الدخل أوّليًا وتحسين توزيعه تاليًا عبر آليات التشغيل والأجور والضرائب والدعم والتحويلات، والديموقراطية الاجتماعية والسياسية الحقيقية التي لا تحرّكها وتسيطر عليها طبقة مهيمنة، بل تُشكّلها القوى المُنتجة لتعبّر بحريةٍ عن مصالح الأمّة وقيم التحديث والعدالة والمساواة التي تتبنّاها الثورة لصياغة الحاضر وبناء المستقبل. وكلا النمطَيْن الكينزي والاشتراكي للإصلاح الاقتصادي، موضوعٌ لمعالجة قادمة.


لقراءة الجزء الأول

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن