والتَّفلسف هنا أيضًا لا نعني به تلك الكُتل النصية التي أنتجتها العقول الفلسفية في مسار اشتباكها مع التحديات الحضارية عمومًا، ولو أنّها جزء منها، وإنما نعني به تلك المُكابدة الروحية والعقلية لأسئلة الحياة واجتهاد لأجل الإجابة عنها ورفعها، أي أنَّ التَّفلسف ليس مجرد استعمال للفلسفة، بل هو صناعة لها، كما أنّه ليس مجرّد قول فكري نظري مفصول عن أسلوب الحياة الثقافي، بل إنّه متقلّب وكَلَّ يوم في شأن من شؤون الحياة والثقافة.
الثقافة إما أن تكون حيّة ومبدعة ومتجددة ونوعية، وإما أن تكون ميّتة وارتكاسية ومأزومة
وإذ تعينت معاني المفهومين: الثقافة والتَّفلسف، فإننا نمضي إلى المرافعة على أنَّ حياة التفلسف مشروطة بالسَّكن في الثقافة، وأنَّ شرط حيوية الثقافة مشروطة بالفكر الفلسفي الجديد الذي ينير لها الدُّروب ويرسم إضاءات للواقع ويقدّم لها اجتهادات نظرية وعملية، تُمَكِّنُ من الارتفاع إلى مستوى من الوجود النّوعي للشَّخص، لأنَّ التفلسف إذا لم يستمع إلى مشكلات الثقافة ويتفكّر في أزماتها، فإنّه يصير فكرًا مُنبتًا، أي مقطوعًا لا أصل له وتائهًا لا مرشد له. ونحن في ثقافتنا العربية المنشودة نريد للتفلسف أن يكون مبدعًا حيًا متجددًا، ونريد للثقافة أن ترتفع بالوعي إلى النموذج النّوعي الذي يخلق نماذج إنسانية متميزة ومؤثرة.
إن الثقافة كما تم شرحها من أنّها ذلك المحيط الذي نمتصّ منها قيمنا، إما أن تكون ثقافة حيّة ومبدعة ومتجددة ونوعية، وإما أن تكون ميّتة وارتكاسية ومأزومة، وثقافتنا العربية المعاصرة، هي من الصنف الثاني، بمعنى أنها مأزومة ومتصدّعة وغير مؤثرة. وهذه الحال، إنما هي الفرصة الثمينة للعقل العربي كي يتفَّكر بالأزمات الثقافية ويمنح مقولات من أجل فهمها وتفكيكها ويرسم معالم إرشادية لأجل جيل ثقافي جديد، وبالتَّالي، فالتَّفلسف الحيّ هو التفلسف الذي لا يقطع مع الثقافة معتقدًا أنه متعالٍ عن عالم المعيش التفاعلي، وساكنًا في مفاهيمه المجرّدة البعيدة عن ضجيج الحياة؛ وإنما ذلك الذي يحقق القُدرة على تحويل قضاياه الواقعية إلى مُشكلات فلسفية، مرتكزًا على رؤيته إلى العالم وعلى نظامه اللُّغوي وسياقه التاريخي، فهذه المحدّدات هي مرتكزات للتفلسف الحقيق بكل منزلة رفيعة.
فمسائل نظام القيم العربية والانفصال بين القيمة والواقع وقضايا الكرامة وحقوق الإنسان والاستبداد السياسي وتحديات ثورة الاعلام و الاتصال وأزمات التَّعليم وأدوار المثقّف ومستقبل اللغة العربية تُعدّ من المصادر الأساسية للتفلسف العربي، فهي التي يسكن بها في الثقافة كما يسكن في العالم؛ وأما الانسياق خلف الحداثة الكونية ودعوى الدخول في الشُّمولية الفلسفية فلا أعتقد أنها تعبّر عن مَكين التفلسف، لأنّ هذه القضايا الموصوفة بالعالمية إنما هي قضايا ثقافية تخصّ مجتمعات معيّنة وليست من الكونية أو الشُّمولية في شي، ومن يعتقد أنّ الكونية أو الشمولية الثقافية هي واقع الحضارة السائدة ومثالها المُحتذى فقد أسلم عقله وفكره لغيره؛ وتعطَّلت طاقته الإبداعية وحركيته المعرفية ونادى على العالم العربي بالانقباض فاستجاب للاستكسال.
نستطيع أن ندخل إلى عالم الكونية بخصوصيتنا الثقافية
إنّ شرط فعالية التفلسف هو تحويل قضايا الثقافة العربية إلى مشكلات، ولفت الوعي العربي العام إلى أهمية التَّفكير من الذّات وبالذّات نحو العالم، لأنه بالتَّفلسف الذي يجري على عادات العرب في التعبير والتبليغ لغويًا، والذي يفكر من مجرى الحياة واقعًا وقيمة، نستطيع أن ندخل إلى عالم الكونية بخصوصيتنا الثقافية، فيصبح التَّفلسف هو لغة الذَّات التي نَعْبُرُ بها إلى العالمية كي نترك الأثر في التاريخ، وقد تكون هذه الإرادة هي الأفق الذي تكون به الثقافة العربية كونًا إنسانيًا جديدًا أعمدته هي: جماليات اللغة وأخلاقيات المروءة والتَّعارف الإنساني والتواضع الثقافي والتكامل الحضاري.
لنقل إذن، بأنّ شرط إمكان التفلسف الحيّ والمؤثر والمعدّل للعالم من حولنا، هو أن يسكن توصيفًا وشرحًا ونقدًا في الثقافة، وهو ليس مجرد جزء منها يتلوّن بواقعها، وإنّما هو تفكُّر يسعى سعيًا إلى أن يرتفع بها إلى ما يجب أن تكون فيه الثقافية من حيث المحتوى وأسلوب الوجود.
(خاص "عروبة 22")