الحوكمة والديموقراطية

"الدّيكتاتورية" سينمائيًّا: حين تقاوِم الصّورة الاستبداد!

من منطلقِ أنَّ الدّيكتاتوريةَ كانت دومًا من الأنظمةِ السياسيّة الأكثر إثارة للجدلِ في تاريخِ البشريّة، حيث تمثِّلُ تركيزًا مُفْرِطًا للسُّلطةِ في يدِ فرْدٍ أو مجموعةٍ ضَيِّقَةٍ، فقد تناولَت السّينما في العديدِ من أنحاءِ العالمِ هذه الظّاهرة السياسيّة، سواء بشكلٍ مباشرٍ أو مِن خلالِ الرّمزيَّة.

سنتناولُ في هذا التقرير، بالشّرحِ والتّحليلِ، كيفَ تمّ تناوُلُ موضوعِ الدّيكتاتوريّةِ في السّينما العربيّةِ والأميركيّةِ، وكيف أظهرَت كلّ منهُما معاناةَ الشّعوبِ والمجتمعاتِ تحت حُكْمِ الأنظمةِ الاستبداديَّة.

الدّيكتاتور العربي.. والقبضة البوليسية

تُعَدُّ السّينما العربيّة، خصوصًا في بلدانٍ مثل مصر وسوريا وتونس، من أبرزِ المنابرِ التي ناقشَت قضايا الحُكْمِ الدّيكتاتوري. وتعودُ جذورُ تناولِ هذا الموضوع إلى منتصفِ القرنِ العشرين، مع وقوع العديد من الدّولِ العربيّةِ تحت وطْأةِ أنظمةٍ سلطويّةٍ تسيطرُ على حياةِ المواطنين.

من أبرزِ الأفلامِ التي تناولَت هذه القضايا في السّينما العربيّة، فيلم "الشيخ جاكسون" الذي يناقشُ تأثير الدّيكتاتوريّة في الفَرْدِ والعائلةِ في ظلِّ مجتمعٍ مغْلقٍ وقمْعي. كما تطرّقَت أعمالٌ مثل "درب الهوى" و"عسل أسود" إلى معاناةِ الشّعبِ تحت حُكْمِ هذِه الأنظمة. كانت الدّيكتاتورية في هذه الأفلامِ تُصَوَّرُ كقوةٍ تُقيّدُ حريةَ النّاس وتمنعُهم من التّعبير عن أنفسِهم أو تحقيق آمالِهم.

نجدُ أيضًا الفيلمَ الشّهير "هي فوضى" الذي تمّ إنتاجُه قبل اندلاعِ ثورة 25 من يناير/كانون الثاني. لقد صَوَّرَ الفيلمُ بِدِقّةٍ كيفَ أَحْكَمَت الدولةُ البوليسيّةُ قبضتَها الحديديّةَ على الشّعب، ودفعَت بهِ إلى حافّةِ الانهيار. وفي السّياق عينِه، يُلَاحَظُ أنَّ الأفلامَ العربيّةَ بعد ثوراتِ "الرّبيع العربي" قد تناولَت كثيرًا من الموضوعاتِ السياسيّةِ المرتبطةِ بالاستبداد، مثل فيلم "678" الذي يتناولُ حقوقَ المرأةِ في ظلِّ الأنظمةِ القمعيَّة.

لا يمكنُنا الحديثُ عن الأعمالِ الفنّيةِ التي عالجَت الدّيكتاتوريّةَ من دونِ الاشارةِ إلى العملِ المسرَحي الخالد "الزّعيم" الذي حوَّل المأساةَ إلى كوميديا سوداء صَوَّرَ من خلالِها هزليَّةَ السُّلطةِ المُطْلقة.

واحدةٌ من أبرزِ السِّماتِ التي تُميِّزُ السّينما العربيَّة في تصويرِ الدّيكتاتوريّة هي الاستخدامُ الرَّمزي للسُّلطةِ في العديدِ من الأفْلام. فغالبًا ما يُصَوَّرُ الحاكمُ بأنّنا إزَّاء شخصيّةٍ مغرورَةٍ تسْعى للحفاظِ على سلطتِها على حسابِ الشّعب. في بعضِ الأحيانِ، تُستخدمُ الشّخصياتُ الثانويّة كرموزٍ للمعارضةِ، بحيث يَتَعَيَّنُ عليهم مقاومة الأنظمة القمعيّة والتّصدّي لخططِ السُّلطة في مسعًى نحو تحقيقِ العدالةِ الاجتماعيَّة.

أميركا "صانعة الدّيكتاتوريّات".. في الواقع والخيال

تناولَت السّينما الأميركيةُ قضيةَ الدّيكتاتوريّة، لكن بشكلٍ مختلفٍ. على الرَّغمِ من أنّ الولايات المتّحدة لا تعاني من أنظمةٍ ديكتاتوريّةٍ داخليّة، فإنَّ السّينما الأميركيةَ كانت دائمًا ما تبحثُ في تداعياتِ الأنظمةِ الاستبداديّةِ في مختلفِ أنحاءِ العالم.

هناك العديدُ من الأفلامِ التي صَوَّرَت الدّيكتاتورية من خلالِ قصصٍ خيالية، مثل فيلم "1984" الذي استندَ إلى روايةِ "جورج أورويل". تمَّ تصويرُ النّظامِ الدّيكتاتوري في الفيلمِ على أنَّه دولةُ مراقبةٍ شديدةٍ تُسَيْطرُ على أفكارِ النّاس وحريّاتهم، وتمنعُ أيّ نوعٍ من المعارضة.

أما في أفلامِ مثل "V for Vendetta"، الذي تدورُ أحداثُه في مستقبلٍ ديستوبي في بريطانيا، نجدُ أنَّ السُّلطةَ تُستخدمُ بشكلٍ استبدادي للتّلاعبِ بالعقولِ والتحكّمِ في الشّعب. يوضحُ الفيلمُ كيف أنَّ الأنظمةَ الديكتاتوريةَ تستطيعُ استخدامَ القوّةِ والعنفِ لقَمْعِ المعارضةِ وحُكْمِ البلادِ بالتّرهيب.

على الرَّغم مِن أنّ السّينما الأميركيّةَ قد تناولَت الدّيكتاتوريةَ في العديدِ من الأفلامِ الخياليّة، إلّا أنَّ هناكَ أفلامًا تناولت هذا الموضوع في سياقٍ تاريخي أكثر واقعيّة. على سبيلِ المثالِ، فيلم "The Killing Fields" يتناولُ معاناةَ الشعبِ الكمبودي تحتَ حُكْمِ "الخميرِ الحمر"، بينما تناول فيلم "Hotel Rwanda" آثارَ الإبادةِ الجماعيّة في رواندا. في هذه الأفلامِ، يُصَوَّرُ الدّيكتاتورُ عادةً كقائدٍ دمويّ يسعى لاستغلالِ السلطةِ لتحقيقِ مصالحِه الشّخصيةِ على حسابِ حياةِ الأبرياء.

التّقاطعُ بين السينما العربية والأميركيّة

بينما تتباينُ الطّرقُ التي تناولَت بِها السينما العربيَّة والأميركيَّة موضوعَ الدّيكتاتوريّة، إلّا أنَّ هناكَ تشابُهاتٍ ملحوظةً في تناوُلِ قضيةِ الإنسانِ تحتَ سلطةِ الاستبداد. في الحالتَيْن، يُصَوَّرُ الحاكمُ عادةً على أنَّه شخص سُلطوي لا يتوانَى عن استخدامِ العنفِ والقمْعِ للحفاظِ على سلطتِه. كما أنّ الشخصياتِ التي تعارِضُ هذه الأنظمةُ غالبًا ما تكون هي المصدرُ الرّئيسي للصّراعِ في السيناريو.

إضافةً إلى ذلكَ، نجدُ أنَّ كلًا من السّينما العربيّةَ والأميركيّةَ تستخدمُ الرّمزيّةَ بشكلٍ كبيرٍ لتوضيحِ التّأثيرِ المُدَمِّرِ للدّيكتاتوريّة في المُجتمعات. قد تكونُ هذه الرّمزيّةُ في السّينما العربيّة مُوَجَّهَةً نحو تصويرِ آثارِ الديكتاتوريةِ في الحياةِ اليوميّةِ، بينما قد تكونُ في السّينما الأميركيةِ أكثرَ تَطَوُّرًا وتميلُ إلى استخدامِ الأنظمةِ الاستبداديّةِ كأدواتٍ لاستثمار قضايا "حقوقِ الإنسان" على المستوى العالمِي.

إنّّ السّينما، سواءً في العالم العربي أو في الولايات المتّحدة، تلعبُ دورًا مُهمًّا في تسليطِ الضوءِ على مخاطر الأنظمةِ الدّيكتاتوريّة، وتقديمِ صورةٍ واضحةٍ للظُّلمِ والمعاناةِ التي تُسَبِّبُها هذه الأنظمةُ للمجتمعات. وعلى الرّغمِ من اختِلافِ السّياقاتِ الثقافيّةِ والسياسيّةِ في كلا العالمَيْن، إلّا أنَّ السّينما تظلُّ أداةً قويةً في نقلِ رسالةِ الإنسانيّةِ والحريّة والديموقراطية.. تحثُّ الناسَ على الوقوفِ ضدّ الاستبدادِ والاستعباد.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن