نغمٌ يَسري في أوصالِ العالمِ العربي فشكَّل لُحمة لا انفِصام لها، صوتٌ تسمعه في القاهرة وبغداد ودمشق وتونس والرّباط وما بينها من عواصم ومُدُن، فتشعر بالأُنْس حتّى ولو اختلفت المدينة. تجسّدت في محبتها وعشقها معنى الوِحدة العربيّة بشكلٍ عفويٍّ وصحّي، والأهمّ أكثر صدقًا من أيّ شعارات.
مكانة أم كلثوم العربيّة تحقَّقت قبل المشروع الناصري (1954- 1970)، الذي يُنْظَرُ له باعتبارِه قمّة التيار العروبي في تاريخ العرَب الحديث، فعندما جاء نظام يوليو/تموز 1952، لم تكُن أم كلثوم أقلّ من ملكةٍ متوّجَةٍ على عرش الغناء العربي منذ أكثر من عقدَيْن من الزّمان.
شعر العرب جميعًا بأنَّ في صوت أم كلثوم ما يشعرُهم بالألفة وأنَّ الأقطار العربيّة بينها مشترك أصيل
حقَّقت شعبيّةً طاغيةً ليس في مصر فقط، بل في أرجاء العالم العربي شرقًا وغربًا. جلجلَ صوتها المُعجِز في دنيا العرب، فسُمعت الآهات تتردَّد بين شوارع مُدُنِهم كرجْعِ صدًى ممزوج بالوَلَه بهذا الصوت الجامع لمحاسِن الطَّرب. أصبحَت منذ بداية الثّلاثينيّات الشّمس التي تحجبُ نجوم دولة الغناء في المحيط العربي، لا أحد يستطيع أن يهزَّ عرشَها ثابت الأركان.
البعضُ يظنُّ أنَّ الزعيم جمال عبد النّاصر حمَلَ أم كلثوم إلى آفاق العروبة الواسعة، لكنَّ الحقيقة أنها بدأت مشروعَها العربي قبل أن يظهرَ نجم ناصر في الأفُق، لم تكن أبدًا ظاهرة مصرية محلّية، موهبة جبّارة أجبرت العرب على فنِّ الإنصاتِ لموهبةٍ كسَيْلٍ منهمرٍ يكتسح كلّ ما أمامه، وقع الجميع في مصيَدة فتنةِ صوتِها، سريًعا أصبحت بعد ميلادِها الفنّي في عشرينيّات القرن العشرين. ظاهرةٌ خارقةٌ في زمن بحث العرب فيه عن ذواتِهم وأنفسِهم تحت وطأة الاستعمار الغربي. شعروا جميعًا بأنَّ في صوت أم كلثوم ما يشعرُهم بالألفة وأنَّ الأقطار العربيّة بينها مشترك أصيل، وهل هناك أكثر أصالة من صوت السِّت؟.
أم كلثوم في فنون الأغاني أمة وحدها بهذا الزمان
هي في الشرق وحدها ربة الفن فما أن للفن رب ثان
ذاع من صوتها لها اليوم صيت عم ّكل الأمصار والبلدان
هكذا انفعل الشاعر العراقي معروف الرّصافي (توفي 1945)، عندما رأى شدوَ أم كلثوم الملائكي على مسرح الهلال في بغداد عام 1932، وهو أحد شعراء العراق الكثيرين الذين دبَّجوا القصائدَ في مدحِها، فالبعضُ لا يعرفُ أنَّ سيّدة الغناء بدأت جولاتِها العربيّة قبل سلسلةِ حفلاتِها الأكثر شهرةً والأبقى أثرًا والتي نظَّمتها بعد هزيمة 1967، والتي خصَّصت دخلَها لدعم المجهود الحربي. فالاحتفاءُ بها بدأ في مختلف البلدان العربية في سنواتٍ مُبكرة، إذ حرصَت الكثير من العواصِم على استضافتِها بعد عشر سنوات تقريبًا من احترافِها الغناء، ربَّما لم تذهب وقتذاك إلى مدنِ المغارب لأنّ الاحتلالَ الفرنسي لم يكن يرغب في ثِقْلِ موهبة عربية تُذكِّر بالأصول التي يسعى المستعمر إلى طمْسها.
صوتُها نجح في تحقيق ما عجز عنه السَّاسة
سبَقَت زيارة أم كلثوم للعراقِ زيارتها لسوريا ولبنان وفلسطين عام 1931. في هذه الجولة كانت الاستقبالات أسطوريّة، تحمل مبايعةَ الجمهور لها بسيادة الغِناء العربي. محبة حاضرة من قلوب هزَّها الطرَب. أفاضَت صحفُ ذلك الزّمان في بلادِ الشّام في وصْفِ النّجاح العريض لحفلات النّغم الذي أَسَرَ العرب. وتدفَّقت كلماتُ الشّعراء تُعبِّرُ عن هذا الأثَرِ العميق لهذا الصَّوت الفريد. الشاعرُ اللّبناني الكبير جبران خليل جبران (توفي 1931)، يمدحها بقوله:
يا أم كلثوم بفنـ ـك أنت نابغة الزمان
بلغت من عليائه ما ليس يُبلغ بالأماني
وقد انفردت فلا مسا بق في المقام ولا مُدان
المُدْهْشُ أنَّ كلمات جبران في حقّ أم كلثوم يقولهُا وهي بعدُ في العشريَّة الأولى من مشوارِها الفنّي المديد الحافل في مستقبل الأيام بأعمال خالدة. هذا بيانٌ شديد الوضوح عن مَدى رُسوخِ الظّاهرة الكلثومية في سَماء العرب منذ سنواتِها الفنّية المبكِّرة، ومع الزّمن تراكَمَت قصائد شعراء العرب في مديح السِّت، التي يمكن القول بلا أيّ مبالغة إنَّها المرأة التي حصَدت النّصيب الأوْفَر من قصائدِ المدْح في تاريخِ العرب الحديث، تكريسًا لتحوّلِها إلى ظاهرة وموهبة خارقة للحدود وموحِّدة للشعوب العربيّة بصورة غير مسبوقة. صوتُها في الحقيقة نجح في تحقيق ما عَجِزَ عنْه السَّاسة.
في كلّ مدينة عربيّة وبعد خمسين سنة من الرّحيل ستجد مقهًى باسمها، ستسمع صوتها يأتي من اللّامكان يُجَلْجِلُ في شوارِعها، يبدو أنَّ الجميعَ وهو يطلب سماع صوت السِّت يردِّدُ مع شاعر العراق جميل صدقي الزهاوي (توفي 1936):
يا أم كلثوم غني فالهوى نغم تلذه الشيب والشبان كلهم
غني وغني على الأوتار صادحة فإنما بالأغاني تنهض الأمم
يا أم كلثوم غني فالغناء إذا ذهبت عنا سيبقى عندنا أثرا
(خاص "عروبة 22")