تبدو الدّعوة إلى حماية العرب عبارةً عن صرخة مدوّية شبيهة بصرخة الكواكبي المحذّرة من مخاطر الاستبداد خلال النّصف الثّاني من القرن التاسع عشر. وهي لا تختلف جوهريًّا عن دعوة أجيال من المُصلحين الذين نسَف أحلامهم واقع عربيّ مرير لم تَزِدْهُ تطوّرات الحضارة المعاصِرة إلّا تعميقًا لندوبه وشروخه.
موجة من التحوّلات الجيوستراتيجيّة بصدد التشكُّل العملي
بالنّظر إلى عديدِ المؤشِّرات، يمكن التّأكيد على جدّية تلك الدعوة. فعلى الصّعيد السّياسي، تصدَّع مشروع الدّولة الوطنيّة الذي كان من المفروض أن يشكّلَ قاطرةً نحو تكامُلٍ عربي أوسع. ولم يتوقّف ذلك التصدّع عند الفشل في تحقيق الأهداف الكبرى مثل تجاوُز الإرث الاستعماري الثّقيل، وتكريس العدالة التوزيعيّة بين جهات البلد الواحد في مستوى استغلال الثّروات، وإنّما فشل حتّى في تحقيقِ الحدّ الأدنى من الحقوق الأساسيّة اجتماعيًّا واقتصاديّا. فعلى سبيل الذّكر تُعدّ شبكات التزوّد بالتيّار الكهربائي والماء الصالح للشراب والإنترنت من أسوأ الشّبكات في العالم من حيث ترهُّلها وضعف خِدماتها وانقطاعاتِها المتكرّرة.
وإذا أخذْنا بعين الاعتبار المستجدّات الدراماتيكيّة التي شهدتها المنطقة العربيّة في الأشهر الأخيرة، وانتهت بالتَّغلغُل الإسرائيلي في عمق الأراضي السوريّة وتركيزِ قواعد عسكرية فيها، مع تزايُد النّفوذ التّركي، فإنّه يمكن القولَ إنَّ موجةً جديدةً من التحوّلات الجيوستراتيجيّة بصددِ التشكُّل العملي.
لا تختلف الأوضاع في بقيّة الدّول العربيّة التي تعرف استقرارًا سياسيًّا نسبيًّا، إذ يبدو ضعف القوى الدّيموقراطيّة فيها واضحًا للعيان، بما أنّها لم تستفِد من تجارب الانتقال الدّيموقراطي بتونس ومصر مثلًا. فعلى النّقيض من ذلك فوَّتت على نفسِها فرص استخلاص الدروس من تجارب فشلِها المتكرّر في قراءة مجريات الواقع السياسي داخليًّا وخارجيًّا. وكان من نتائج ذلك انكفاؤها على نفسِها وتراجع مصداقيّتها.
عندما تنجح الدولة الوطنية في تجاوز أعطابها فإنَّ انفتاحَها الاستراتيجي على تكامل عربي يكون تحصيل حاصل
فاقم التّعديل الاستراتيجي الأميركي المعتمد في معالجة المسألة العربيّة تأزيم الأوضاع. فالولايات المتّحدة لم تَعُد تجد حرجًا في تغيير تصنيفاتها من النّقيض إلى نقيضِه من دون مراجعاتٍ تُذْكَر إذا كان ذلك ينسجمُ مع رؤيتِها للقضيّة الفلسطينيّة ويُعَزِّزُ التفوّق الإسرائيلي. فقد سارعت إلى محوِ تصنيف "جبهة النّصرة" وقائدها من قائمة "الجماعات الإرهابية" ورضيِت به لحُكْمِ سوريا بضمانةٍ تركيّة، ثمّ بالتّزامن مع ذلك لم يجد الرّئيس الأميركي ترامب غَضَاضَةً في الدّعوة إلى تهجير أهل غزَّة إلى مصر والأردن، في وقتٍ يحرُص فيه على ترحيل المهاجِرين الأميركيّين الجنوبيّين وغيرهم إلى بلدانِهم الأصليّة بصورة استعجاليّة. ولئِن بدَت مواقف الدول العربية الرّسمية المعنيّة بالأمر واضحة، فإنَّ عديد المؤشِّرات توحي بعكس ذلك.
بَيْدَ أنَّ تجارب التّاريخ تُعلّمنا دائمًا وجود خيارات بديلة حتّى في أحلكِ مراحل الضّعف والخيْبة والانكسار. وبعيدًا عن التوصيف المُسْتهلك الذي يجترُّ غالبًا الحديث عن إمكانات العرب الكبرى وقدراتهم، فإنَّ جميع الخيارات البديلة نحو مستقبل عربي واعِد لا يمكن أن تُفضي إلى نتائج مأمولة من دونِ الانطلاق في عمليّات مصالحة وطنية على نطاقٍ واسع، يقعُ فيها تكريس عُلْويَّة ثقافة الاعتراف والتعدُّدية والحسم النهائي في اعتماد الدّيموقراطية بصفتها الآليّة الوحيدة المُتاحة حاليًّا لضمانِ تداولٍ سِلمي على السُّلطة، واستتبابِ الأمن الذي لا يمكن أن تتحقّق التنمية وتتعزّز فاعلية الدولة الوطنية من دونه.
اعتماد الجانب الاقتصادي مدخلًا للتكامل العربي يُعَدّ سبيلًا أَقْوَم لضمان الوجود التاريخي والحضاري العربي
عندما تنجح الدولة الوطنية في تجاوز أعطابها المزمنة، فإنَّ انفتاحَها الاستراتيجي على تكامل عربي جادّ يكون تحصيل حاصل. ففي هذه الحالة، سيترسَّخُ الوعي الفعلي بأهمّية الاستثمار في المصالح المشتركة بين مختلف الدّول العربيّة على أساسِ تبادُل المَنافع وتكوين ثقل اقتصادي وسياسي وحضاري وازِن في عالمٍ لم يَعُد يعترف إلاّ بحجَّة الأقوى.
ولعلَّ تغيُّر المعادلة القائمة التي غالبًا ما تُقدِّم الجانب السياسي على بقية الجوانب الأخرى، وعكسها تمامًا باعتماد الجانب الاقتصادي مدخلًا للتكامل العربي، يُعَدّ سبيلًا أَقْوَم لضمان الوجود التاريخي والحضاري العربي. ومن ثمّة، قد تفقد الدعوة إلى إدراج العرب ضمن الكائنات المهدَّدة بالانقراض معقوليَّتَها وجدواها.
(خاص "عروبة 22")