في إطار هذا التلاحم العميق بيْن الإنسان والآلة والذي تسارع على نحوٍ ملحوظ في العشرين سنة الماضية، ظهر نوعٌ جديد من التعلّق والارتباط العاطفي بالحاسوب وشاشاته على تنوّعها كبيرة وصغيرة ويدويّة، وبعد أن أوْكلنا إليها مهام تدريسيّة لتعليم وتدريب أجيال ما بعد سنوات التسعينيّات، وتعويض الفصول والمدارس والجامعات والكتب والأقلام والمختبرات وساحات التدريب، ها نحن اليوم نوكل إليها مهامّ أكثر خطورة وتأثيرًا، ونطلب منها تعويض الرّابط العاطفي والاجتماعي بين البشر، فلم يعد ضروريًّا التنقّل لزيارة الأقارب والأحباب، بل إنّ الشبكات الاجتماعية باتت كافية للقيام بذلك عبر نقل الأصوات والصور وتفاصيل المعيش اليومي، كما لم يعد مطلوبًا من الوالدَيْن رعاية وتربية الأبناء عبر مراقبتهم وتوجيههم وحمايتهم من المخاطر وهم يلعبون ويمرحون ويتنقّلون هنا وهناك، فالآلة الصمّاء تتكفّل بذلك، فإذا تواجدوا في البيت أو خارجه (ساحات وحدائق ومسابح ومطاعم)، فالشاشة قادرة على شدّ انتباههم، والإبقاء عليهم في حالة سكون وثبات أمام الشاشات، وتولّي مهامّ مراقبتهم من دون تعَب أو عناء أو حاجة لمراقبتهم وتوجيههم ومتابعتهم عن كثب.
جيل الشبكيّين منشطرٌ على ذاته داخل طبقات متعدّدة يتداخل فيها الثقافي بالاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي
ها نحن اليوم، نوكل لهذه الآلة الصمّاء مهام التربية، ونطلب منها أن تعوّض الرّابط الاجتماعي والتعلّق العاطفي وما تقلّص في حياتنا الواقعية من مشاعر حب، وأمان، وراحة وانتماء، بتعلّق رقمي وروابط شبكيّة رخوة وسائلة، ضاربين عرض الحائط عن وعي أو جهل، كلّ النظريّات والمسلّمات والحقائق العلمية التي تؤكِّد على أنّ البشر إنما يتطوّرون اجتماعيًّا ونفسيًّا (أي إنسانيًّا)، عبر تفاعلهم مع الآخرين من حولهم، ما يسمح لهم بالتحوّل تلقائيًّا إلى كائنات اجتماعية بعد أن وُلدوا ككائنات بيولوجية فقط، إذ في كلّ مرحلة من مراحل العمر من الطّفولة إلى الشباب وحتى أرذل العمر، يواجه الفرد منّا تحديات اجتماعية ونفسية ووجوديّة تتطلّب منه أن يتفاعل مع بيئته ويطوّر مهاراته.
في مثل عالم اليوم التِّكنولوجي الذي يتفاخر على نحوٍ غير محدود بإدماج المهارات الحاسوبيّة وتقنيّات الذكاء الاصطناعي في التربية والتدريب والرعاية وبلوغ مستوى المجتمع الشَّبَكي وجيل الشَّبكيّين، تتصاعد معه على نحوٍ غير متناسب وتائر انحلال وانحراف وسقوط أخلاقي رهيب، ترافقه تَمَظهُرات صراع وتغالب ونزاع مبتذل، مليئة بخطاباتِ عداء وتشويه وعنف، تتشابك فيها اللّايفات والتدوينات والتغريدات والصور ومقاطع الفيديو ومختلف صيغ السّرديات اللاأخلاقية، لإعادة صياغة واقعنا في إطار لااجتماعي، وعرض ورفع بعض الكائنات (اللااجتماعية أي تلك التي لا تنضبط لمعايير المجتمع وقيمه وأخلاقه) إلى مستوى النجوم والمشاهير.
جيل الشبكيّين هذا ليس بنيةً ولا تشكيلةً واحدة، فهو منشطرٌ على ذاته داخل طبقات اجتماعية/شبكيّة متعدّدة يتداخل فيها الثقافي بالاجتماعي والاقتصادي والأخلاقي، إضافة إلى دور التنشئة الاجتماعية سواء الوالديّة (من الوالدين والأقران والأقارب)، أو الآليّة (التعلق الرقمي بالشاشات والحواسيب منذ الطفولة). يذكّرنا هذا الوضع بتجارب فريدة من نوعها قام بها العالِم هاري هارلو عام 1950 لاستكشافِ قوّة الارتباطِ بين القِرَدة الصغيرة التي تمّ حرمانها من أمّهاتها البيولوجية أو الطبيعية، وتمّ إبقاؤها في أقفاصٍ مع "أمّهات" مصنوعةٍ من أسلاكَ شائكة ومعادن وقماش، ولكنّها كانت قادرةً على أداء وظائف أساسيّة مثل توفير الحليب، والدِّفء، والاتصال الجسدي المحفِّز، لاحقًا أصبحت هذه القرود المختبريّة أكثر صحةً، وأصبح من السّهل تدريبها على المهارات التقنية، مقارنة بقردةٍ تربَّت بواسطة أمّهات طبيعية، لكنّها كانت أقلّ جودة، غيْر أنّ هذه القردة التي تربّت مع أمهاتٍ بأسلاك شائكة عانت لاحقًا من اختلالٍ نفسي، مثل الجلوس بشكل غير عادي، أو التّحديق في الفراغ، وأبدى بعضُها نوعًا من الاضطراب والعنف تجاه أجسادِها، إذ كانت تعضُّ أنفسَها وتمزِّقُ لحومها حتّى يسيل الدم.
إعادة الفحص على نحو دائم فيما يُعتقد أنّه "طبيعة حيوانية" و"طبيعة بشريّة" و"طبيعة تكنولوجية آليّة"
لقد استشهد إريك إريكسون المعالج النّفسي، وصاحب نظرية النّمو الاجتماعي/النّفسي لدى الإنسان طويلًا بهذه التجربة، كما استشهدَ بقصّة "إلسا اللبوة"، التي تربَّت بحب واهتمام في منزل آدامسون في كينيا، وحافظت على الاتصال به حتى بعد عودتها إلى البريّة، ومنها اقترح هذا الباحث إطارًا نظريًّا فريدًا لإقامة روابط بين مراحل النمو المختلفة لدى الإنسان والبيئة والمجتمع. وأكَّد أنه يمكن رعاية الجانب الإيجابي لدى الأطفال عبر التربية الوالديّة وجماعة الأقران والأقرباء (البشر) ليؤثِّر في المجتمع والطبيعة، وأنه إذا كانت الحيوانات قادرة على العناية بـ"الآخَر"، فإنَّ البشرَ بفضل قدرتهم على التفكير، والتأمل، والتعليم، لديهم القدرة على القيام بذلك وعلى درجةٍ عاليةٍ من الدقة والفاعلية، بما يفيد إعادة الفحص وعلى نحوٍ دائم فيما يُعتقد أنّه "طبيعة حيوانية" و"طبيعة بشريّة" و"طبيعة تكنولوجية آليّة".
(خاص "عروبة 22")