وجهات نظر

العرب وتجديد التفكير في الانتماء والتكامل والتأثير (2/1)

كُتبت خلال العقود الأخيرة أطروحات عديدة، وأبحاث هائلة حول التاريخ العربي وعلاقته بالهويّة والوعي وصلةُ كلّ ذلك بالتكوين التاريخي للأمة، وما نشأ عنه وترتّب عليه من دورٍ وحضور وقضايا وإشكاليات. لكن وبالرغم من التأويلات المتنوّعة للتاريخ العربي، إلا أنّ الأمر يحتمل المزيد من التأمّل والتحليل عطفًا على الأزمة التي ما تزال تتحكّم بعلاقة العرب بأنفسهم – دولًا ومجتمعات – وبمحيطهم الإقليمي وبالعالم، وقضاياهم السياسيّة والاقتصاديّة والاستراتيجيّة.

العرب وتجديد التفكير في الانتماء والتكامل والتأثير (2/1)

هل التأزّم الغالب يستدعي إعادة كتابة تاريخيّة جديدة، تفترض، مثلًا، تقديمَ الاقتصادي على السياسي، أو المصالحَ والمشتركات على الاعتبارات والأيديولوجيات، ثم الانطلاق لإعادة التأسيس للتفكير في قضايا المجتمع والدولة، والسياسة والاقتصاد، ومسائل الحرية والشرعيّة، والانتماء والمصالح، والوعي والتأثير؟

هنا، إذن، عدّة أولويات؛ التاريخ والقومية والدولة والعلاقة بالعالم.. فمن جهة؛ الوعيُ بالتاريخ هو شرطٌ ضروريٌ للوعي بالواقع والعصر والعالم. وقد اهتمّ العربُ بالكتابة عن أنفسهم وتاريخهم، انطلاقًا من وقائع راهنة أو من حوادث ماضية، كذلك فعل مستشرقون واستراتيجيون غربيون، وكل ذلك يكشف الوعي الذي يحكم رؤية الجماعة العربية لنفسها ودورها وعلائقها بالآخر.. أيّ آخر. وإذا كان ذلك ضروريًا في فترة الحضور الامبراطوري الوازن والتجربة التاريخية الثريّة، فإنه في أزمنة القرية الكونيّة المترابطة والتكتلات الاقتصادية الكبرى أكثر وجوبًا.

النظام الدولي وأنظمته السياسية والاقتصادية لم تكن يومًا إلا استغلاليّة أو مائلة للاستغلال

من نافل القول إنّ القوميّة ليست تاريخًا. هي إرادةٌ سياسيّة لفئة أو مجتمع أو مجتمعات تريد تشكيل أمّة على بقعة جغرافيّة، هكذا تَشي تجارب التاريخ، وهذه الأمة قد تنجح لأسباب منطقيّة أو غير منطقيّة في إقامة دولة في إطار حدود جغرافيّة؛ دولة تضمن لمكوّناتها العيش سويّة، وتضمن تعايش الفئات فيما بينها، على قواعد الانتظام والقانون والمصالح ومواجهة التحديات. هنا الإرادة والحدود والدولة أشياء مستحدثة، صنعها أناس يريدون تنظيم علاقاتهم فيما بينهم، ومع مَن حولهم وفق موازين قوى متغيّرة، وحدودٍ شبهَ ثابتةٍ بفعلِ ما أقرّه النظام الدولي الحديث منعًا للفوضى. لكنّ رؤية هؤلاء لأنفسهم وللعالم من حولهم تحدّد شكل علاقاتهم الخارجية تمامًا كما تحدّد مستوى تفوّقهم في ابتكار مؤسسات سياسيّة وإداريّة واقتصادية وتشريعية تعكسُ مدى نجاحهم أو فشلهم في إدارة شؤونهم العامة وفي إدارة شراكتهم مع العالم. بصرف النظر عن الموقف من النظام الدولي أو أنظمته السياسية والاقتصادية التي لم تكن يومًا إلا استغلاليّة أو مائلة للاستغلال، سواء اتّسمت أنماط الإنتاج بالرأسمالية أم بأشكال أخرى، وأشكال النظم السياسية بالتعددية والحرية أم الشموليّة.

ليس قيام إسرائيل عنوانًا للهزيمة فحسب، بل أيضًا تراجع الاقتصاد وغياب التنمية وخنق الحريات وسوء التعليم

ثمة تجارب لأمم شكّلت دولًا، ولمهاجرين شكّلوا دولًا وأممًا.. لكن الصادم أنّ هناك أممًا لم تستطع بالرغم من تفاخرها بتاريخها التليد وثقافتها الجامعة أن تشكّل دولًا قادرة ومجتمعات متماسكة! وهذا ينطبق على التجربة القوميّة العربية وسعيها المجهَض نحو التوحّد القسري، حيث انهزم المشروع، وتشتّت اللاعبون، وقامت إسرائيل وبات التسابق نحوها "أمرًا عاديًا"، واحتُلّت دولٌ وتفكّكت أخرى.. وتسرّبت مشاريع إقليمية مدمّرة، وتغيّرت الأولويات وضاق مجال الرؤية والوعي والحضور!! لا يعرف التاريخ المعاصر منطقة مرّت عليها نكبات وانتكاسات وهزائم كالذي مرّ على العالم العربي! من أزمنة التواريخ الماثلة في الذاكرة كعناوين للانكسارات والاحتلالات (48، 56، 67، 73، 83، 96.. 2003، 2011..) التي تجاوزت المعنى العسكري لتطال السياسي والاقتصادي، ومثلها في الثقافة وإدارة الموارد والتنمية، ثم دخول المشاريع الإقليمية المشبوهة، المغلّفة بخطابات مذهبيّة وانفصاليّة تعادي الدولة الوطنية وتفتّت مجتمعها، وبعدها برامج التنمية الأكثر شبهة، وأخيراً مع الإنكسارات أمام العالم كالذي حصل في أعقاب 11 سبتمبر 2001 وتداعياته الهائلة!!

السؤال المشروع، بل الضروري، هو أين العرب من كل هذه التجارب؟ ولماذا أجهضت كل محاولات إقامة كيانات التكامل الاقتصادي، ولماذا فشلت مشاريع التكامل، ولماذا كانت الهزيمة حاضرًا دائمًا ومتعدّد الأوجه، فليس قيام إسرائيل واستمرارها عنوانًا فجًّا للهزيمة فحسب، بل أيضًا تراجع الاقتصاد، وانكماش الإنتاج والنمو، وغياب التنمية، واحتكار الشأن العام، وخنق الحريات، وسوء التعليم وفقدان الأمل.. وفوق ذلك الانحباس في أصوليات تزيد الشرخ مع التاريخ والحاضر والمستقبل، والذات والمجتمع والعالم!!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن