أمّا ترامب فقد أمطر العالم بوابلٍ من المواقف التي اصطدمت بمصالح العديد من القوى الدولية، وأشارت هذه المواقف إلى نزعة إمبريالية ليست بالغريبة على السياسة الأميركية، لكنّ الغريب فيها هذه المرة أنّها طالت حلفاء وأصدقاء، كمطالباته بضمّ كندا للولايات المتحدة، وجزيرة غرينلاند من الدنمارك، والسيطرة على قناة بنما، وتغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أميركا، وكانت ثالثة الأثافي بالنسبة لنا أفكاره الخاصّة بتهجير سكان غزّة بدعوى أنّهم يعيشون في ظروف مستحيلة، وأنّه سيوفّر لهم أماكن أجمل للعيش، لكنّهم لن يعودوا إلى وطنهم، وكلّ ما ارتبط بهذه الأفكار الشوهاء من حديث عن شراء غزّة أو تسلّمها من إسرائيل، وتوزيع أجزاء منها على دول أخرى وباقي هذا الهراء غير المسبوق.
سمة العشوائية بادية التأثير في قراراته والدّليل على ذلك أنّه يتناقض ويتراجع عنها جزئيًّا وكليًّا
وقد حاول البعض تبرير هذه الأفكار غير المألوفة بأنّها أتَت نتيجة خطّة مُحْكَمَة الغرض منها حرْف انتباه المواطن الأميركي عن قضايا الداخل الأميركي الذي لم يسْلم بطبيعة الحال من مبادرات رئيسِه مما وَلَّد نوعًا من المعارضة الداخلية، والحقيقة أنّني على الرَّغم من رصانة الحجج التي استند عليها أنصار هذا التحليل لا أُشاركهم هذا الرّأي، فقد يكون لسلوكه غير المألوف أَثَرٌ بالفعل في حرْف انتباه الرّأي العام عمّا يفعله في الداخل، لكنّ سِمة العشوائية بادية التأثير في قراراته، والدّليل على ذلك أنّه يتناقض ويتراجع عنها جزئيًّا وكليًّا، كما في المثال الشهير الخاص بجحيم غزّة، وكان قد سبق له استخدام هذا المصطلح من أجل التوصّل إلى اتفاق وقف إطلاق النّار، حينما هدّد بالجحيم لغزّة إن لم يتمّ التوصل للاتفاق، ثم عاد فجأة لاستخدام التهديد نفسه عندما أعلنت "حماس" نيّتها عدم تسليم الأسرى المقرّر تسليمهم يوم 15 فبراير/شباط بسبب عدم وفاء إسرائيل ببنود البروتوكول الإنساني المُلحق بالاتفاق، وفي هذه المرّة هدّد بالجحيم لغزّة ما لم تطلق حماس "كلّ الأسرى" بحلول الساعة 12 ظهر ذلك اليوم. وتدخّل الوسطاء وأمكن التوصّل لتسوية ما سمحت بإتمام التبادل المقرّر في موعده، من دون أن يتمَّ الإفراج عن "كلّ الأسرى" بطبيعة الحال، غيْر أنّ الجحيم لم يأتِ لغزّة التي تعيش في جحيم فعلًا منذ أكثر من سنة، ناهيك عن الغياب التامّ لأي مقوّمات تصلح للحد الأدنى من الحياة الكريمة، وخرج ترامب بتصريحٍ لطيف مفاده تفويض إسرائيل في تنفيذ ضربة الجحيم كما تشاء، وستكون هذه سابقة تتلوها سوابق أخرى تعكس فشل ترامب المتوقّع في وضع أفكاره الشوهاء موضع التنفيذ.
لا شكّ أنّ تساؤلات حقيقية تُثار حول فرص نجاح ترامب في فرض آرائه الشوهاء على الأطراف المعنيّة، وفي البحث عن إجابة لهذه التساؤلات يمكننا الاستناد إلى أمرَيْن أوّلهما الخبرة الماضية للسياسة الأميركية، والثاني ردود الفعل الرّاهنة لهذه الأفكار، أمّا الخبرة الماضية فهي قاطعة بشأن فشل السياسات الأميركية، مع أنها كانت منطقيّة في إطار الصراعات الدولية الدائرة آنذاك، فالتدخّل في كوبا وفيتنام وجد منطقه في الحرب الباردة والصراع بين المعسكرَيْن الرأسمالي والشيوعي، وغزو أفغانستان وجد مبرّره في أحداث أيلول/سبتمبر 2001، ومع ذلك فقد كان الفشل الاستراتيجي هو السّمة العامة لمآل السياسات الأميركية كما يظهر بوضوح من تجارب كوبا وفيتنام وأفغانستان. وحتّى عندما حققت أهدافًا تكتيكية بغزو العراق وإسقاط نظامه في 2003 كانت المحصلة النهائية مقاومة عراقية ضارية رسمت أول ملامح تآكل الأحادية القطبيّة، ناهيك عن تعاظم النفوذ الإيراني في العراق.
الفشل سيكون من نصيب أفكار ترامب الشوهاء وإن كان بمقدورها أن تُحْدِث قدرًا يُعْتَدّ به من الفوضى
أمّا ردود فعل أفكار ترامب ومبادراته الحالية فقد ولَّدت إجماعًا على رفضها، وهو على أي حال لم يترك مجالًا للأطراف المعنيّة بها للحديث عن حلّ وسط، فكلّ أفكاره تمسّ مباشرةً سيادة الدول وبقاءها، أو تضرب عرض الحائط بمبادئ لا يمكن المساس بها، ومن هنا لم يتركْ فرصة لأحد لإبداء أيّ مرونة تجاه هذه الأفكار، ناهيك عن تصاعد المعارضة الداخلية لسياساته، وإذا كانت غير قادرة حتّى الآن على تغيير هذه السياسات فإنّها قد تُفضي بعد انتخابات التجديد النِّصْفي للكونغرس التي تحلّ في منتصف ولايته إلى إنهاء انفراده بالسيطرة على مجلسَيْ الكونغرس، ومن ثم فرض قيود حقيقية عليه، وعمومًا فإنّ كلّ المؤشّرات تشير إلى أنّ الفشل سيكون من نصيب أفكار ترامب الشوهاء، وإنْ كان بمقدورها أن تُحْدِث قدرًا يُعْتَدّ به من الفوضى وعدم الاستقرار مما يتطلّب التحسُّب والتدبُّر من قبل المستهدفين بهذه الأفكار.
(خاص "عروبة 22")