ساهمت الضغوط المُكثفة من قبل الوسطاء والتحركات العسكرية الإسرائيلية المتصاعدة، ولاسيما في مدينة غزة، الى دفع حركة "حماس" للقبول بالمقترح الذي قُدم اليها من دون أي تعديلات، والذي يتضمن وقفًا للنار لمدة 60 يومًا، إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين على دفعتين وتسليم جثث القتلى منهم. وقد شكل هذا الاعلان حالة من الفرح الحذر لدى الغزاويين الذين يأملون ان تصل الامور الى خواتيمها السعيدة خاصة ان تل أبيب لم تحسم جوابها بعد وما سُرب يحمل مؤشرات متضاربة بعد اعلان رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو مسبقًا شروطه لانهاء الحرب والتي تقوم على اطلاق سراح جميع الاسرى دفعة واحدة، نزع سلاح "حماس" كما القطاع بأكمله، فرض السيطرة الامنية على غزة، تشكيل حكومة من دون اي تمثيل للحركة كما للسلطة الفلسطينية.
أما حلفاء نتنياهو، في اليمين المتطرف، أمثال وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير ووزير المالية بتسلئيل سموتريتش فالمؤكد أن موقفهم جاء رافضًا لأي اتفاقية جزئية بحجة عدم القضاء على الحركة بالكامل. في المقابل قال الرئيس الأميركي دونالد ترامب "لن نرى عودة الرهائن المتبقين إلا بعد مواجهة حركة "حماس" وتدميرها"، موضحًا أنه كلما حدث ذلك بسرعة، زادت فرص النجاح. وعليه، يعيش الفلسطينيون لحظات مصيرية مع استمرار التصعيد الاسرائيلي والقصف المكثف على أحياء مدينة غزة التي تشهد منذ عدة ايام عملية مسح للمباني ونسف للمساكن وتهجير ممنهج للسكان وفق المخطط المرسوم الذي يهدف لحشر ما يزيد عن مليون فلسطيني في بقعة جغرافية محددة.
وهذا الوآقع المحتدم والمخاوف المتعاظمة من هجوم اسرائيلي وشيك هو الذي اطلق صفارات الانذار واعاد زخم المفاوضات التي كانت مجمدة بعد فشل أخر جولة مباحثات في العاصمة القطرية الدوحة. وفي هذا الاطار، أكد الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي ورئيس الوزراء وزير الخارجية القطري محمد بن عبد الرحمن آل ثاني على الأهمية القصوى للجهود المتواصلة بالتنسيق مع الولايات المتحدة للتوصل إلى وقف فوري لإطلاق النار. وأكد الجانبان أهمية إدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة بشكل عاجل دون عوائق، إلى جانب الإفراج عن الأسرى، مشددين على رفضهما القاطع لأي إعادة احتلال عسكري للقطاع أو تهجير الفلسطينيين، مشددين على أن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية وفق قرارات الشرعية الدولية تمثل السبيل الوحيد لتحقيق السلام والاستقرار في المنطقة.
وشكل هذا اللقاء المصري - القطري اشارة الى أن هناك مساعي جدية تُبذل وعلى اكثر من صعيد وتسابق خطة احتلال مدينة غزة في وقت برزت أيضًا الزيارة التي قام بها رئيس الوزراء الفلسطيني محمد مصطفى لاول مرة الى معبر رفح بحضور وزير الخارجية المصري بدر عبد العاطي الذي تحدث عن القيود التي تفرضها قوات الاحتلال الاسرائيلي لمنع تشغيل المعبر، مؤكدًا أن بلاده مستعدة لإغراق غزة بكل المساعدات مع إنهاء العقبات الإسرائيلية. وتصريحات عبد العاطي تأتي بعد حملة انتقادات واسعة واجهتها القاهرة في الأسابيع الماضية والتظاهرات العارمة امام سفاراتها الديبلوماسية في الخارج بحجة مشاركتها في الحصار المُطبق على الفلسطينيين الذين يواجهون تجويعًا متعمدًا منذ اشهر عديدة ويتفاقم يومًا بعد يوم حاصدًا المزيد من الارواح حيث سُجل في الساعات الاخيرة 5 حالات جديدة مما يرفع العدد إلى 263 شهيدًا بينهم 112 طفلًا.
من جانبها، تنفي تل أبيب وجود مجاعة في غزة وتتهم "حماس" بسرقة المساعدات بينما تواصل المنظمات الدولية مناشداتها واخرها "منظمة العفو الدولية" التي اتهمت اسرائيل مباشرة بتنفيذ حملة تجويع متعمدة في قطاع غزة لتدمير صحة ونسيج المجتمع الفلسطيني بشكل منهجي. ولا تأبه اسرائيل لكل التصريحات والاتهامات الموجهة اليها بل تمضي قدمًا بمخططاتها التوسعية حيث نقل موقع "والا" الإسرائيلي عن مصادر عسكرية أن نحو 80 ألف جندي إسرائيلي سيشاركون في محاصرة مدينة غزة. كما اعتبر مسؤول عسكري مطلع أن هذه العملية ستكون موسعة وستشكل خطرًا كبيرًا على الجيش الاسرائيلي. وسبق ذلك خلافات حادة بين المستوى السياسي والمستوى العسكري حول مخاطر هذه الخطة قبل أن يرضخ رئيس هيئة الاركان إيال زامير ويوافق عليها في حين تشهد البلاد انقسامات حادة عكستها التظاهرات المليونية التي اجتاحت شوارع تل أبيب ومدن اخرى مطالبة بانقاذ حياة الرهائن وابرام صفقة تبادل فورًا.
ويمكن لهذه الاصوات الرافضة لاستمرار الحرب إن تزامنت مع ضغط اميركي حقيقي يمارسه ترامب على "حليفه" نتنياهو أن تؤدي الى موافقة اسرائيل على المقترح المُقدم والسير نحو هدنة ما تفتح الطريق امام التوصل إلى اتفاق شامل لإنهاء الحرب. الا ان هذا يبقى واحد من السيناريوهين المطروحين لان الثاني يعني فشل الوساطة وعودة الامور الى المربع الاول واستمرار عملية احتلال غزة وتداعياتها الخطيرة. وهو ما ستوضحه الساعات المقبلة خصوصًا ان نتنياهو يعلم حجم الضغط الذي ترزح تحته "حماس" ويمكن ان يدفعه ذلك لتحسين شروطه والتقدم بطلب المزيد من التنازلات. في غضون ذلك، الوضع في الضفة الغربية المحتلة يتدهور وتزداد حملات الاعتقالات والمداهمات للمنازل على وقع التعديات المتزايدة للمستوطنين الذين شنّوا أمس عدة هجمات بحماية من الجيش الاسرائيلي. وكان المتحدث باسم الأمين العام للأمم المتحدة، ستيفان دوجاريك، حذّر من استمرار هجمات المستوطنين داعيًا الى حماية الفلسطينيين في الضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية.
لبنانيًا، توجهت الانظار الى زيارة المبعوث الأميركي توم برّاك الذي أكد بعد لقائه رئيس الجمهورية جوزاف عون أن "نزع السلاح يصبّ في مصلحة الشيعة وليس ضدّهم". وقال "لا نعمل على تخويف أحد، فالنتائج الإيجابية تشمل "حزب الله" ولبنان وإسرائيل معًا، ونحن نركّز على الازدهار المستقبلي لا على الترهيب". كلام برّاك، الذي رافقته الموفدة الاميركية والمسؤولة السابقة عن ملف لبنان مورغان أورتاغوس، يؤكد ان واشنطن تتلمس الخطوات التي تقوم بها الحكومة اللبنانية في اطار اقرار خطة لحصر السلاح رغم الانتقادات التي تتعرض لها من قبل "حزب الله"، الا ان ذلك يبقى منقوصًا ما لم تبادر اسرائيل الى البدء بخطوات حاسمة ووقف الانتهاكات والاعتداءات على الاراضي اللبنانية وهو ما كان محور حديث الرؤساء الثلاثة الذين اجمعوا على ضرورة ممارسة الضغوط على إسرائيل والتزام قوات الاحتلال بتعهداتها وصولًا لتحقيق الانسحاب الكامل من الاراضي اللبنانية والدخول في مسار إعادة الإعمار.
وحصر السلاح، ليس الموضوع الوحيد الموضوع على طاولة البحث، بل إن التجديد لقوات "اليونفيل" العاملة في جنوب لبنان، يعتبر ملفًا حساسًا يسعى فيه لبنان الى ضمان تجديد ولايتها سنة إضافية ويدفع في هذا الاتجاه حفاظًا على الاستقرار وبدعم من فرنسا التي تسعى الى ضمان تأمين الاصوات اللازمة في مجلس الامن الدولي لاستمرار عملها، وذلك في مواجهة ضغوط اسرائيلية تُمارس بهدف انهاء مهامها كليًا ووجود ميل أميركي لذلك او امكانية التجديد لها لبضعة اشهر فقط مقابل تعزيز عمل لجنة مراقبة وقف إطلاق النار بالتعاون مع الجيش اللبناني. ومن المعلوم أن ولاية هذه القوات تنتهي في 31 آب/ أغسطس الحالي ومن هنا تأتي المساعي والاتصالات اللبنانية لتمرير هذا الموضوع ودون تعديل في صلاحياتها او المهام المنوطة بها بل السعي لان تقوم بالدور الموكل اليها منذ سنوات.
في الشق الدولي، أعلن الرئيس ترامب أنه بدأ ترتيبات لعقد قمة سلام ثنائية بين نظيريه الأوكراني فولوديمير زيلينسكي والروسي فلاديمير بوتين، على أن تتبعها قمة ثلاثية يشارك فيها هو وذلك بعد اللقاء الذي عُقد في البيت الابيض وجمع الى جانب زيلينسكي عددًا من الزعماء الأوروبيين الذين جاءوا في اطار الوقوف الى جانب كييف في مطالبها والتأكيد على ألا تكون "قمة الاسكا" على حسابهم وهم الذين يعتبرون بوتين "شخصًا غير موثوق به".
وكان الرئيس الاميركي اعتبر أن هناك فرصة تلوح في الافق لوقف الحرب الدائرة، مجددًا اتهام سلفه جو بايدن بإشعالها "هذه ليست حربي. إنها حرب جو بايدن، وهو المسؤول الأول عن حدوث هذا، ونريد أن ننهي هذه الحرب على خير، فقد عانى شعب أوكرانيا معاناةً لا تُوصف". وتسعى اوكرانيا الى وقف الحرب عليها والحدّ من الخسائر التي يتكبدها اقتصادها ناهيك عن الاضرار البشرية، ولكنها في الوقت عينه تتخوف مما يطرح عن تنازلها الكامل عن الاراضي التي سيطرت عليها القوات الروسية الى جانب وجود رفض اميركي لدخولها الى حلف "الناتو".
الصحف العربية الصادرة اليوم ركزت على الاوضاع الفلسطينية التي لا تزال تحتل الصدارة. وهنا ابرز ما ورد في الجولة الصباحية:
لفتت صحيفة "الوطن" القطرية الى أن "جهود الوساطة تتواصل من أجل العودة إلى وقف إطلاق النار في قطاع غزة، وبدء مسار سياسي جاد لإنهاء الحرب، بعيدا عن أوهام وغطرسة القوة التي لن تحقق الأمن لإسرائيل أو المنطقة"، مشددة على أن "الجهود القطرية - المصرية تستهدف في المقام الأول الوقف الفوري لإطلاق النار في غزة، وإدخال المساعدات الإنسانية بشكل عاجل ودون عوائق، إلى جانب الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، والرفض القاطع لإعادة احتلال القطاع أو تهجير الفلسطينيين، على اعتبار أن ذلك سيؤدي إلى تعقيد الأزمة وزيادة معاناة المدنيين، وهذه الجهود لم تتوقف يومًا".
وكتبت صحيفة "الرياض" السعودية "بين دير ياسين وغزة سقطت قرى ومدن، وتبدلت أسماء الجنرالات والساسة، لكن ثابتًا بقي: كلما اختلف العرب تجرأت يد القاتل.. على شعب أعزل وُلد محاصرًا، ولم يملك يومًا رفاهية اختيار مدينة أخرى أو دولة أخرى"، مضيفة "لدينا في العالم العربي ما هو أكثر من العاطفة: لدينا القدرة على بناء كتلة ضغط حقيقية تبدأ بتوحيد الموقف حول حد أدنى واضح؛ وقف القتل، فتح الممرات الإنسانية الدائمة، إطلاق مسار ملزم للاعتراف بالدولة الفلسطينية، وتجريم أي محاولات للتهجير أو التفاوض المنفرد.. وحين تتكلم العواصم العربية والإسلامية بصوت واحد يصبح الصمت الدولي مكلفًا، والتواطؤ عارًا لا يمكن تجميله".
تحت عنوان "لاتجعلوا أحلام نتنياهو تفزعنا"، تطرقت صحيفة "الغد" الاردنية الى أن "نتنياهو متغطرس، ويشعر بنشوة الانتصار بعد كل ما حققه في حروبه على المنطقة، لكنه ليس غبيا أبدا لحد الاعتقاد بأن بمقدوره أن يجعل من أحلامه عن إسرائيل الكبرى حقيقة واقعة". واردفت قائلة: "المهم في هذه المرحلة أن لا نمنح حكومة نتنياهو فرصة لتسجيل مزيد من الانتصارات في الساحة العربية والفلسطينية. نوقف مسلسل الخسائر وجرائم القتل في غزة، ونستعيد وحدة المشروع الفلسطيني في مواجهة المشروع الصهيوني، ونلتفت لأوطاننا العربية التي تلوح في أجوائها نذر حروب أهلية وطائفية، ستكون بمثابة هدية لإسرائيل أحلى وأكثر قيمة من قيام إسرائيل الكبرى".
صحيفة "عُمان" العُمانية رأت أن "البعد الاستيطاني في الفكر الصهيوني لا يرتبط بفلسطين لوحدها، وإنما يتعدى ذلك لتحقيق ما يسميه إسرائيل الكبرى. وعلى الرغم من تعاقب الحكومات الإسرائيلية والتعددية الحزبية التي تعيش من خلالها الحياة السياسية في إسرائيل، إلا أن هذه الفكرة بقيت موجودة"، متسائلة "الصراع مع إسرائيل في الوقت الحالي قد تطور من صراع حدود إلى صراع وجود؛ فهل نشهد نهاية لحل الدولتين؟ وماذا تبقى منه مع كل هذه التطورات؟ هذه أسئلة بحاجة للبحث، لكن الدول العربية ليست الآن في حالة الترف في التعامل مع إسرائيل، بل في حالة من الحفاظ؛ إذ لا يُمكن التعامل مع هذه الخطابات بحسن النية، بل يجب أخذها على محمل الجد، والعمل بجدية على وقف العنجهيات الإسرائيلية".
(رصد "عروبة 22")