التّفكير في عصر "الميتافيرس والذّكاء الاصطناعي التوليدي"!

انعقدت في فرنسا مؤخّرًا، قمّة عالمية للذّكاء الاصطناعي، تزامنًا مع يوم وطني حول هذه الثورة الرّقمية، جرت فعّاليته على الخصوص يومي 11 و12 فبراير/ شباط 2025، وهي القمّة التي عرفت مشاركة بعض صانعي القرار على الصعيد الأوروبي والأميركي من جهة، بمن في ذلك حضور الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، إضافة إلى بعض رموز إمبراطوريات "الغافام"، أي مؤسّسات "غوغل" و"آبل" و"فيسبوك" و"أمازون" و"مايكروسوفت"، ضمن مؤسّسات أخرى في الحقل التّكنولوجي/العلمي نفسه.

التّفكير في عصر

في عزّ هذا الاحتفاء العالمي وانخراط الجميع في التّرويج لهذه الثورة الرّقمية، سوف ينخرط فيلسوف فرنسي، في تنظيم قمّة مضادّة للذّكاء الاصطناعي، بالاشتراك مع فعاليات إعلامية وبحثيّة متخصّصة.

يتعلّق الأمر بالمفكّر الفرنسي إريك سادان، والذي صرّح حينها بأنّ الهدف من هذه المبادرة المضادّة يروم "الدفاع عن إنسانيّة العصر الراهن"، لأنّ "الذّكاء الاصطناعي التوليدي، الذي يُمثًل نقطة التحوّل الفكرية والإبداعية في الذّكاء الاصطناعي، يجب أن يدفعنا إلى طرح أسئلة ثقافية وحضارية على أنفسنا، بخاصّة أنّه يؤدي اليوم مهام حشدت حتى الآن ملكاتنا الفكرية والإبداعية. إنّه أشبه بإعصار سيضرب المِهن ذات الكفاءة المعرفيّة العالية".

سادان، للتذكير، اشتُهر بتأليف سبعة كتب نظريّة حول قضايا مصيرية ذات صلة بالثورة الرّقمية، منها ثورة الذّكاء الاصطناعي، وينشر بانتظام في عدّة منابر إعلامية فرنسية وأوروبية، بما يُفسر انخراط عدّة دور نشر أوروبيّة في ترجمة أعماله، ما دام الأمر يتعلّق بقضايا الساحة، إلى درجةٍ أنّه منذ بداية العام الدراسي 2020، نقرأ مقتطفات من أعماله في المناهج الدراسية الفرنسية الخاصّة بمادة الفلسفة. ومن الإصدارات السابقة للمؤلف، نذكر على الخصوص "الحياة الخوارزمية" (2015)، "الذّكاء الاصطناعي ورهان القرن" (2018)، "حقبة الفرد الطاغية" (2020).

الإمبراطوريات الرّقمية تحافظ على الارتباط الوثيق بين الميتافيرس والذّكاء الاصطناعي التوليدي في الشّاشات

هذه المقدّمة ضرورية في سياق التوقّف عند أحدث أعمال مفكّر أصبح يُلقّب في الساحة الأوروبية بأنّه فيلسوف التِّكنولوجيا، حيث انخرط إريك سادان عمليًّا طيلة العقد الماضي، في تحديث أبرز سِمات هذا الفرع الحديث من الفلسفة، أيّ الرّفع من وتيرة حقل نظري قائم منذ ثلاثينيّات القرن العشرين، عنوانه التحليل النقدي لتأثير الحضارة التِّكنولوجية وأهميتها التاريخية.

نحن في ضيافة كتابه الذي يحمل عنوان "حياة الطّيفية: التفكير في عصر الميتافيرس والذّكاء الاصطناعي التوليدي"، معتبرًا بدايةً أنّ الميتافيرس ليس خيالًا، وإنّما حقيقة تحيط بنا بالفعل بقدر ما تحيط بنا حركة قوية، وهي البِكسل المتزايد، إلى درجةٍ أنّه تمّ تجاوز عتبة مفصليّة مع ظهور الذّكاء الاصطناعي التوليدي، الذي لم يعد دوره هو إدارة مهامّنا ولكن إنتاج اللغة والصور والصوت، وعمّا قريب، سيكون صوت هذه الروبوتات هو الذي سيرشدنا في كهوف البِكسل، وفي كل مرحلة من مراحل حياتنا مُقدّر لها أن يتمّ تحليلها وتسليعها وتجسيدها، ولهذا - في سياق التذكير بمهام أهل النّظر - وفي مواجهة هذا التمزّق غير المسبوق، من الضروري لأهل النّظر الفلسفي الانخراط في الفهم والعمل، عبر استحضار التجارب التاريخية وتحليل الأنظمة التِّكنولوجية، وفكّ رموز المصالح الاقتصادية والعواقب الحضارية.

جاء العمل موزعًا على مدخل من حوالى 50 صفحة، حيث تتضح جليًّا العدّة النظرية لإريك سادان، وأربعة فصول تحت العناوين التالية: "الثالوث المنقسم: التِّكنولوجيا، الجسد، المجتمع"؛ "إعادة فبركة الواقع"؛ "الشبح الآخر"؛ "مسار نزع الذّاتية"، وتتفرّع هذه الفصول بدورها إلى عدّة محاور، جاءت إجمالًا في 275 صفحة.

من مهامّ المفكرين والفلاسفة والعقلاء اليوم، تشخيص الحاضر لتحديد الحقائق، قصْدَ رسْم خريطة للأوضاع الحالية، ممّا يجعلها أكثر وضوحًا للجميع. ويضيف المؤلف أنّه في أيامنا هذه، وفي هذه الأوقات العصيبة على البشرية، من المحتمل ألّا يصبح التشخيص للحاضر كافيًا، بل يجب الاشتغال أكثر على تشخيص واستشراف القادم في ضوء الحاضر الوشيك، من فرْط التحوّلات والمستجدات المرتبطة بالثورة الرقمية.

تضمّن الكتاب وقفات نقدية ضد الأسماء البحثية والإعلامية والسياسية المنخرطة في الترويج للثورة الرقمية من دون استحضار الأوجه السلبيّة لهذه العملة الرقمية، كما يعجّ الكتاب بإحالات على رموز فكرية وأدبية، وحتى مجموعة من الأعمال السينمائية، التي كانت استشرافية في حين صدورها.

ينتقد المؤلّف الوضع الإنساني الذي وصلنا إليه في التعامل مع الخوارزميات، ومن ذلك، أنّنا وصلنا إلى مرحلة إعطاء التعليمات للآلات، وكذلك السّماح لها بإعطاء التعليمات لنفسِها، حتى نتلقى تعليمات منها في مرحلة موالية، حتّى إنّ هذه الآلية هي رمز للتوصيات التي نتلقاها باستمرار من المنصات التي تقترح علينا اتخاذ هذا الإجراء أو ذاك بشكل عام لأغراض عدّة، منها الأغراض التجارية والاجتماعية وغيرها.

يضيف المؤلف أنّ الإمبراطوريات الرّقمية تحافظ بذكاء على الارتباط الوثيق بين الميتافيرس والذّكاء الاصطناعي التوليدي في الشّاشات، وبخاصّة شاشات الهواتف الذكية (صدرت إحصائية مؤخّرًا حول نسبة استعمال المواطنين في فرنسا لأجهزة الهاتف، واتّضح أنها تناهز خمس ساعات ونصف يوميًّا)، وكلّما حافظ الإنسان الرّقمي على الارتباط المستمرّ بتلك الشّاشات، كلّما أخبر تلك الشركات بالمزيد من الأنظمة بالمسار الصحيح للعمل والترشيد، من خلال ما يُنتجه من بيانات، في أفق تحقيق عدّة أهداف، ونتوقف هنا عند هدفين: إنشاء رابط مستمرّ وسرّي وشخصي للغاية بين كل واحد منا وبين الشركات في جميع أنحاء العالم؛ إنشاء تنظيم متطوّر أكثر من أي وقت مضى لطبيعة العلاقات الإنسانية، في عالم يجب أن يسير دومًا بأكبر قدر من الكفاءة المفترضة وخاليًا من جميع العيوب، بما يُفسّر كثرة إحالات المؤلّف على بعض أعمال الثنائي جورج أورويل وألدوس هكسلي، بحكم الأفق الاستشرافي لبعض أعمال هذا الثنائي على الخصوص، عبر بوابة الفكر والأدب.

إدارة العديد من شؤوننا عبر الشّاشات التي تنتشر في المجتمع أمرٌ يثير الفزع والرعب

يطالب المؤلّف بأخذ مسافة من احتفاء إمبراطوريات "الغافام" (خصّ بالذكر مؤسّسة "غوغل") بجوائز علميّة تظفر بها أسماء فكرية تُمجّد الثورة الرّقمية والذّكاء الاصطناعي وتُطبق الصّمت عن التداعيات السلبية للثورة نفسِها، داعيًا إلى أن تكون هذه الجوائز من نصيب أولئك الذين يعملون، على جميع مستويات المجتمع، على إعطاء مضمون للقيم المتميزة جذريًّا، من قبيل جورج أورويل أو ألبير كامو أو غونتر أندرس أو العديد من الشخصيات التي احتفلت بثرائنا الحسّاس والروحي الذي لا ينضب، وعارضت العِلم ضيّق الأفق الذي يُنذر بالعديد من المخاطر. في هذه الحالة، ستكون الشخصيات التي تتصرّف بشكل عام في الظلّ هي التي سيتم تسليط الضوء عليها، وتستحقّ أن تكون قدوة لتبني مجموعة من المبادرات.

إنّ مجرّد أن تكون البشرية اليوم منخرطة في مسار يربطها، على المدى الطويل، بأنظمة الذّكاء الاصطناعي، وإدارة العديد من شؤوننا، عبر تلك الشّاشات التي لا تُعدّ ولا تُحصى، التي تنتشر في المجتمع، أمرٌ يثير الفزع والرعب.. وهذا الهاجس الذي حذّر منه المؤلف، يأتي في مقدّمة الأسباب التي تقف وراء تأليف هذا الكتاب، والذي نتمنى أن يظفر بترجمة للغة العربية، لأهميّة مضامينه النافعة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن