الحوكمة والديموقراطية

ديموقراطية التواطؤ!

انتقلت الديموقراطية إلى بلداننا في المرحلة الاستعمارية وانخرطت أحزاب النّخب في العملية الانتخابية، ومع ما شاب العمليات الانتخابية من تجاوزاتٍ وسوء ممارسةٍ بسبب نقص الخبرة، فإنّ بلدانًا مثل العراق الملكي، وسوريا ما قبل الانقلابات العسكرية، ومصر قبل انقلاب الضباط في يوليو/تموز 1952، إضافةً إلى لبنان، عرفت الأحزاب والصحافة الحرّة والبرلمانات المُنتخبة وتداول السلطة بين النّخب المتحدرة من المدرسة العثمانية، والتي كوّنت تجاربها من خلال التحوّلات التي شهدتها هذه البلدان بعد الحرب العالمية الأولى.

ديموقراطية التواطؤ!

لم تكن الممارسة الديموقراطية قد تجذّرت بسبب المدة القصيرة التي مورست خلالها الديموقراطية الانتخابية، بين نهاية الحرب العالمية الأولى وإقرار الدساتير في البلدان المذكورة، وبين نكبة فلسطين عام 1948 وبداية مرحلة الانقلابات العسكرية في سوريا ومصر والعراق لنصل إلى نظام الحزب الواحد، حيث لا مجال للتنافس بين أحزابٍ تتعارض في برامجها وتوجّهاتها. افترضت هذه الأنظمة الانقلابية وادّعت أنّ "الشعب" على رأيٍ واحد، ومع ذلك فإنّها استعارت نموذج الممارسة الانتخابية (الديموقراطية) وهي أشبه بالتعيين منها إلى الانتخابات الفعلية، واستبدلت الانتخابات الرئاسية بالاستفتاء على شخص الرئيس حصرًا. وكانت الأنظمة ذات الأصول العسكرية والانقلابية حريصةً على ممارسة هذا النمط من اللجوء إلى صندوق الاقتراع لتؤكّد مشروعيّتها السلطوية.

وعلى الرَّغم من الطابع الشكلي لهذا النوع من المُمارسة الانتخابية، التي يصعب وصفها بالديموقراطية، خصوصًا في ظلّ إعلان حالة الطوارئ الدائمة، التي تعني رفع القانون وتعطيله ومنع الحريات الإعلامية والحرية الشخصية التي أصبحت تحت الرقابة الصارمة من الأجهزة، فإنّ الأنظمة الاستبدادية كانت بحاجةٍ إلى هذا النوع من الممارسة، لأنها لا تملك أي مشروعيّة للاستمرار في السلطة، فلجأت إلى هذا الشكل من الانتخابات التي هي أشبه بالمُبايعة.

ديموقراطية فساد يضرب المؤسّسات العامة من أسفلها إلى أعلى مراتبها

في الخمسينيّات والستينيّات، كان يُمكن لهذه الأنظمة أن تعوّض عن حجز الحريات وتحويل الديموقراطية الانتخابية إلى ممارسةٍ شكليةٍ، بنوعٍ من الديموقراطية الاجتماعية عن طريق نشر التعليم، ومدّ شبكات الكهرباء والمياه، والاستفادة من بعض الرّخاء بتشجيع ديموقراطية الأدوات التي بدأت في الستينيّات. ففي كل بيتٍ من أبناء الطبقة الوسطى جهاز تلفزيون وثلاجة وأدوات أخرى ضمنت نوعًا من المساواة في الرّخاء والتنمية التي توقفت مفاعيلها مع السبعينيّات، حين تبخّرت وعود الرّخاء مع الإخفاق المتواصل لخطط التنمية، وتزايد الهجرة من الريف إلى المدينة مع الإفقار المتزايد للأرياف.

ومع الانحسار المُتمادي للقانون وغياب حرية الرأي والإعلام، وهيمنة ما يُسمّى بالحزب الواحد، الذي هو جسم يقوم على الولاء للحاكم، تقوم على أنقاض الديموقراطية السياسية، ما يمكن أن نسمّيها بديموقراطية الأعراف أو الديموقراطية الشعبويّة التي هي سلسلة من الولاءات والامتيازات الجزئيّة وأساسها أجهزة الأمن التي تحلّ مكان القانون، والتي تعمل على كسب ولاء النافذين المحليين من "قبضايات" و"بلطجية" الأحياء، إلى أرباب العشائر في البادية والأرياف، الذين يصبحون المرجعيّات في مناطق نفوذهم، وأهل الحلّ والرّبط وتخليص المشكلات وتغطية تجاوز القانون. وبذلك، فإنّ المواطن بقدر ولائه يُصبح قادرًا على إنفاذ أموره وتجاوز القوانين التي تصبح خارج التداول. هذا المواطن الذي بقدر ولائه يتمتّع بامتيازاتٍ صغيرةٍ، كاحتلال الأمكنة العامة، والأرصفة والساحات لإقامة منشآتٍ تجاريةٍ صغيرةٍ، وتجاوز قوانين البناء، وعدم دفع فواتير الكهرباء وصولًا إلى الانتظام في شبكات التهريب والاتجار بالممنوعات.

الجهل بحقوق المواطَنة المتفشّي في الفئات الهشّة يجعلها تظنّ أنّ الولاء هو بمثابة المشاركة في النفوذ

وعلى هذا النّحو، تنشأ ديموقراطية شعبويّة يمكن تسميتها بديموقراطية الفساد الذي يضرب المؤسّسات العامة من أسفلها إلى أعلى مراتبها، وعلى هذا النّحو أيضًا يمكن لصغار المواطنين أن يكونوا جزءًا من هذه الديموقراطية، بقدر ما يظهرونه من ولاء. إنّها ديموقراطية الصمت والتواطؤ. إنّ الأغلبية تصمت خوفًا من الأجهزة الأمنية وأذرعة الحاكم الطويلة. أمّا أولئك الذين ينخرطون في التواطؤ والفساد وتجاوز القانون فيُجاهرون بالولاء لقاء اشتراكهم وتواطئهم وتأييدهم للنّظام الذي يرفع شعار الديموقراطية الشعبية.

من هنا، فإن الفئات الأكثر فقرًا وهامشيةً تصبح أشدّ ولاءً لنظام الاستبداد، إذ تمتزج الرهبة والخوف بالاستفادة من تجاوز القانون ومن الفُتات الذي تحصل عليه. إنّ الجهل المطبق بحقوق المواطَنة المتفشّي في هذه الفئات الهشّة، يجعلها تظنّ أنّ الولاء هو بمثابة المشاركة في النفوذ، وهي الأشدّ حضورًا وضجيجًا، في المناسبات التي يلجأ فيها الحاكم إلى ديموقراطية صناديق الاقتراع.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن