تقدير موقف

أكاذيب لابيد

على الرَّغم ممّا عنونتُ به هذا المقال، فهي ليست أكاذيب يائير لابيد؛ رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق، الذي يروّج لنفسه (ويروّج له من يحاولون تبييض الوجه الإسرائيلي) كرئيس لوزراء قادم يسمحُ وجودُه (بديلًا من نتنياهو) باستكمال الصفقات الترامبية الخبيثة للشرق الأوسط الجديد، إذ لا جديد البتّة فيما قاله الرجل على محطة تلفزيون (عربيّة) قبل أسبوعين، فهو فقط ردّد ما يلوكه السياسيون الإسرائيليون على اختلاف أشكالهم، وإن اختلفت الصياغات والعبارات.

أكاذيب لابيد

لن أناقش هنا ما فعلَتْه المحطّة، أو ما فعله المُذيع (المُحاور)، وما أثاراه من جدل (أو غضب). فالأهم في رأيي من الانشغال بهكذا صخب أو جدل قد يختلف فيه البعض لأسباب خارج الموضوع، هو الردّ على الأكاذيب ذاتها، والتي لا يملك أحدٌ، أمام ما هو معلوم بالضرورة "والوثائق" أن يختلف حول كونها "أكاذيب"، ومن ثمّ تفنيدها، وطرح ما غاب من أسئلة، حتّى لا نسمح لمثل هذه المُغالطات المُعبّأة في علب تلفزيونية ملوّنة أن تتسلّل هكذا إلى عقل المشاهد / المتلقّي الذي تصادف أن شاهد السياسي الإسرائيلي الذي كان من الطبيعي أن يعبّر عن سعادته بالفرصة التي أُتيحت له لأن يوجه (دون مقاطعة، أو مناقشة) ما يريده من رسائل؛ للجمهور العربي أولًا، ولناخبيه الإسرائيليين ثانيًا.

"We care about civilians، نحن الإسرائيليون نهتمّ بالمدنيين، ولا نريد أن نرى شخصًا بريئًا يُعاني"، هكذا بدأ السياسي الإسرائيلي حديثه المعسول. لا أعرف إنْ كان رئيس الوزراء السابق اطّلعَ على قرارات محكمة العدل الدولية الثلاثة الصادرة قبل أكثر من عام، أو على التقارير "الأممية" التي ما فتئت، على مدى واحد وعشرين شهرًا من "الحرب" (لا الاحتراب) على غزّة - توجّه اتهامًا لا لبس فيه لجيش "الاحتلال" (أكرّر: "الاحتلال") باستهداف المدنيين، وبارتكاب ما قد يرقى إلى مرتبة "الإبادة الجماعية". كما لا أعرف إنْ كان يعتبرُ أنّ عشرات الآلاف من "النساء والأطفال" الذين قضوا في غزّة؛ تحت القصف، أو كنتيجةٍ لحصار التجويع، وتدمير البنية التحتية من "المدنيين الأبرياء" أم من "الأغيار"؛ الذين تحلّ دماؤهم؟.

اعترافات منشورة لجنود إسرائيليين تتحدث عن أوامر رسمية بإطلاق النار على الفلسطينيين عند مراكز توزيع المساعدات

هو لم يتردّد أيضًا في أن ينفيَ مسؤولية الجيش الإسرائيلي عن مقتل الفلسطينيين "الجوعى"، الذين كانت كلّ جريمتهم هي محاولة الحصول على الغذاء عند مراكز توزيع المساعدات (وصل عددهم، حتّى كتابة هذا المقال إلى 875 حسب مكتب المفوّض السامي لحقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة OHCHR)، متناسيًا (كما لم يُذَكّره أحد) باعترافاتٍ منشورةٍ لجنودٍ إسرائيليين تتحدث عن أوامرَ رسميةٍ بإطلاق النار على الفلسطينيين عند مراكز التوزيع تلك "حتّى وإنْ لم يبدر منهم أي تهديد". بالمناسبة، الاعترافات الإسرائيلية تلك، التي لم تواجهه بها القناة (العربيّة) كانت قد نشرتها هآرتس (الإسرائيليّة) لا غيرها.

حسنًا فعل المُحاور بتذكير المسؤول الإسرائيلي بحقيقة أنّ إسرائيل أوقفت عمل الأونروا؛ المنظمة الدولية التي كانت مسؤولةً (ضمن أمورٍ جوهريةٍ أخرى) عن إعالة وإطعام الفلسطينيين في غزّة. إلّا أنّ ردّ المسؤول الإسرائيل كان مُفرطًا في استهزائه بعقل مستمعيه. هو قال إن "حماس" كانت تستولي على المساعدات الغذائية لتبيعها للفقراء في غزّة بأسعارٍ خياليةٍ "لتشتري السلاح"، هكذا (!). لم يقلْ لنا (كما لم يسألْه أحد) من أي "سوق" يمكن لحماس، أو غيرها وسط هذه الحرب وهذا الحصار أن تشتري السلاح؟ دعك من السلاح، هل هناك ما يمكن شراؤه أصلًا من خارج غزّة المحاصرة؟.

في الدقيقة الحادية عشرة من الحوار يقول لابيد: "نحن نحارب آلةً إعلاميةً دعائيةً تنسب لإسرائيل ما ترتكبه حماس في غزّة بشكل يومي".

نُذكّر من شاهدوا أكاذيبه أنّ معاناة الفلسطينيين بدأت في ثلاثينيّات القرن الماضي في حين لم تظهر "حماس" إلّا في 1987

يا له من استهزاء بعقل محاوره ومشاهديه. العالم كلّه يشاهد الطائرات والقاذفات الإسرائيلية تقصف غزّة بقذائف أميركية؛ ذكية تارةً، وغبية يصل وزنها إلى ألفَي رطل تارةً أخرى، ويأتي لابيد ليَتّهم حماس، التي لا تملك طائرات ولا قاذفات، بأنها هي التي تفعل ذلك (هكذا). ثمّ، وفي العبارة التالية مباشرة، يردّد المقولة الدعائية الإسرائيلية المحفوظة: "إذا لم تكن هناك حماس، لن تكون هناك معاناة للفلسطينيين". دعونا نُذكّر الرجل، أو بالأحرى نذكّر من شاهدوا أكاذيبه على القناة (العربيّة) أن معاناة الفلسطينيين بدأت فعليًا في ثلاثينيّات القرن الماضي مع بداية الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأرض الفلسطينية مع كلّ ما تبعه من فظائع الاحتلال والعدوان والتوسّع، في حين لم تظهر حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) إلّا في عام 1987 أي بعد خمسة عقودٍ من بداية "النكبة". وبالمناسبة، السجل الطويل من المذابح، وجرائم الحرب بحقّ المدنيين الفلسطينيين على مدى ثمانية عقود، ومنه تسميم العصابات الصهيونية لآبار القرى العربية عام 1948، وَثَّقَهُ المؤرّخون الإسرائيليون أنفسهم في العديد من الدراسات والكتب.

يكذب الضيف الإسرائيلي للقناة العربيّة حين يحاول أن يقول لمشاهديه العرب إنّها "ليست أكثر من حربٍ على حماس"، في محاولةٍ خبيثةٍ لسحب القضية الحقيقيّة إلى فخّ الاستقطاب العقيم الذي عمل البعض في السنوات الأخيرة على أن يتجذّر في نفوس الناس.

لا أحد، إذا أحسنّا النظر (والنوايا)، إلّّا ويعلم أنّها ليست حربًا على حماس، بل هي، كما فصّلنا هنا سابقًا حرب (مستمرّة) على الفلسطينيين، وليس فقط في غزّة، بل في الضفّة أيضًا، بل وفي كلّ ركنٍ في هذا العالم يعيش فيه فلسطيني يُطالب بحقّه. لمَن نسي، لم تكن حماس قد ظهرت عندما اغتال الإسرائيليون كمال عدوان (ورفيقيه؛ كمال ناصر، وأبو يوسف النجار) في بيروت قبل خمسين عامًا، ولم يكن خليل الوزير (أبو جهاد) حمساويًا، حين اغتالته إسرائيل في تونس (حمّام الشطّ) عام 1988، كما لم يكن أبو علي مصطفى (اليساري / القومي) حمساويًا، حين اغتالته إسرائيل في مكتبه بمدينة البيرة (المحتلة) عام 2001...

لسنا هنا بصدد إعادة التذكير بالأسماء والوقائع والمدن (العربيّة)، التي استباحها جيش الاحتلال على مدى ثمانية عقود. فالقائمة طويلة، بطول التاريخ، وإنْ تناساه المسؤول الإسرائيلي.

فضلًا عن الأكاذيب، يُحاول رئيس الوزراء (المحتمل)، في حواره مع القناة (العربيّة) ترويج خطته لغزّة، والتي لا يتردّد بكلّ فوقيّة وصلف في القول إنّ الفلسطينيين (بما فيهم السلطة الوطنية) غير مؤهّلين لحكم أنفسهم، محاولًا توريط مصر، "لتاريخها في محاربة الإخوان" لتكون جهة حكمٍ بديلةٍ، مُردفًا أنّه قدم خطته تلك للأميركيين في واشنطن "وهنا" يقصد أبو ظبي (!). لا أريد هنا أن أنوبَ عن الجهات المصرية "الرسميّة" في الردّ على هكذا اقتراح توريطي. هم فعلوا. وحسنًا ما فعلوا.

بكلّ صلف يقترح على السوريين أن ينسوا الجولان أرضهم ويمضوا قدمًا نحو السلام "الإبراهيمي"

ثمّ، وقبل أيام فقط من عدوانٍ متغطرسٍ على العاصمة العربية دمشق، لا يمكن تبريره حتى بالعبارة الديبلوماسية المبتذلة "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، عندما سأل المُحاور المسؤول الإسرائيلي: كيف يمكن أن تُقنعَ السوريين واللبنانيين بسلامٍ مع إسرائيل التي تحتلّ فعليًا أراضي سورية ولبنانية؟ كان ردّه "فاضحًا" للعقلية الإسرائيلية التوسعّية، ولمنطق البلطجة الذي تتعامل (وستتعامل) به مع جيرانها. هو نفى ابتداءً أنّ الجولان أراضٍ محتلّة بزعم "أنّ إسرائيل تسيطر الآن على الجولان لوقتٍ أطول بكثير مما فعل السوريون" (!) لستُ هنا في معرض تذكير السياسي الإسرائيلي بتاريخ الشام المُغرق في القِدم، أو حتى بخرائط سايكس - بيكو (1916)، أو بقرارات الأمم المتحدة والقانون الدولي الذي لم يعترف أبدًا بقرار إسرائيل ضمّ الجولان (1981). لكن أستغرب أنّه يريدنا أن ننسى أنّ "الكِيان" الإسرائيلي ذاته لم يبلغ الثمانين من العمر بعد. بكلّ صلفٍ، يقترح الرجل على السوريين أن ينسوا الجولان (أرضهم)، ويمضوا قدمًا نحو السلام "الإبراهيمي"؛ حيث الرّخاء والازدهار. يا لها من صفقة "إسرائيلية" بامتياز!.

في الدقائق الخمس الأخيرة من حديثه (رسائله)، وبغضّ النّظر عن محاولة ترويج نفسه "كرجل سلام"، وإشارته الصريحة إلى "الارتكازات" العربية لمشروع الشرق الأوسط الإسرائيلي، لم ينسَ الرجل - الذي أعلن غير مرة عدم قبوله بحدود 1967 ــ تذكير مشاهديه (المُفترض أنّهم من جيرانه العرب) بأنّه "ينبغي على الإقليم كله أن يكون قد تعلّم أنّ إسرائيل هي القوة الإقليميّة العظمى (Super power)، والقادرة على فعل أشياء لا يستطيع أحدٌ غيرها فعلها"... يا لها من رسالةٍ "موجزة".

وبعد،

ففضلًا عن أنّنا لسنا بحاجةٍ إلى التأكيد على بدهيّة أن "لا سلام بلا عدل، وبلا إعادة الحقوق لأصحابها"، وعلى أهمية أن ندرك الفارق ما بين السلام والاستسلام، فقد نتّفق أو نختلف مع ما كان من أسلوب المُحاور في إدارة الحوار مع "المسؤول" الإسرائيلي، وقد نتّفق أو نختلف مع إتاحة الفرصة هكذا لترديد مثل هذه الأكاذيب على شاشةٍ عربيّة. كما قد نتّفق أو نختلف مع حماس، التنظيم، أو حتّى المقاومة.

ولكن أنْ نسكت على مثل هكذا أكاذيب من دون تفنيدٍ وردٍّ، فتلك مسألة أخرى. والسطور أعلاه لا تعدو أن تكون غير محاولةٍ لتفادي ذلك، وهو ما أحسبه "فرض عين".

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن