لن تحسم الحروب والصراعات الدائرة في الشرق الأوسط بضربات عسكرية قاضية، كما أن مساعي تسويتها سلميًا لن تسفر سريعًا عن نتائج إيجابية ومستقرة. من فلسطين إلى اليمن مرورًا بالأوضاع اللبنانية والسورية وفي الجوار المباشر في السودان وليبيا وفي حوض النيل ذي الأهمية الوجودية، تحيط الحروب والصراعات الأهلية والتوترات السياسية التي تشهدها هذه البلدان مصر بتحديات كبرى ترد على أمنها القومي وتستدعي من ثم من صناع القرار التعامل معها جميعا وفي ذات الآن.
كدولة محورية في محيطها الإقليمي، تربط مصر بين سياسات حماية أمنها القومي وبين أهدافها الكبرى في الشرق الأوسط والمتمثلة في حل القضية الفلسطينية استنادا إلى إقامة الدولة المستقلة في القدس الشرقية والضفة الغربية وغزة، وفي استعادة الاستقرار في مناطق الحروب والصراعات، وفي تخليص الإقليم من التوظيف العدواني للقوة العسكرية وإخلائه من أسلحة الدمار الشامل، وفي التوافق حول ترتيبات أمن وتسويات سلمية تطلق طاقات التنمية البشرية والتعاون بين كافة بلدان الإقليم دون تمييز.
بالنظر إلى سياسات وممارسات الدول المحورية الأخرى في الشرق الأوسط، تستطيع مصر، من جهة، تطوير شراكتها الاستراتيجية مع الأردن والسعودية والإمارات وقطر دفاعا عن القضية الفلسطينية وحماية للأمن العربي ودعما للتعاون العسكري والاقتصادي والتجاري ويمكنها، من جهة أخرى، الانفتاح المحسوب على الحكومتين التركية والإيرانية دون تجاهل تناقضات الرؤى والمصالح. أما فيما خص إسرائيل، فأولويات مصر هي الحفاظ على تماسك معاهدة السلام، والحيلولة دون الانتقاص من سيادتنا الوطنية أو تهديد أمننا القومي، وعدم السماح بضياع غزة على فلسطين إن بتنفيذ جريمة التهجير أو بوسائل أخرى، ومقاومة تصفية القضية الفلسطينية التي يريدها اليمين المتطرف الحاكم في تل أبيب.
ليس معنى الرفض المصري المشروع لطرح إدارة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بشأن غزة واعتراض القاهرة الصريح على تبرير واشنطن لجرائم الاستيطان والضم في الضفة الغربية، ليس معناهما اعتبار أن علاقات الصداقة والتعاون بين مصر والولايات المتحدة الأمريكية في سبيلها إلى الانهيار أو الترويج لحتمية تراجعها.
يتعين على القاهرة رفض سياسات واشنطن المنحازة إلى اليمين الإسرائيلي المتطرف، ويمكنها الرد الفعال على التلويح غير المقبول بتجميد المساعدات العسكرية والاقتصادية بالتدليل على قدرتها على التخلي عنها وتوفر مصادر بديلة داخليا وإقليميا ودوليا (وليست مقاتلات الجيل الرابع الصينية سوى دليل بين على ذلك)، ولها أن تستند في هذا وذاك إلى الدعم الشعبي والتضامن العربي والعالمي. غير أن إمكانيات الفعل السياسي والدبلوماسي للقاهرة تعطيها مساحات كثيرة لمخاطبة واشنطن بطرح مغاير فيما خص غزة (الخطة المصرية لإعادة الإعمار) والقضية الفلسطينية (تطوير ترتيبات وقف إطلاق النار إلى هدنة طويلة المدى والعودة إلى مفاوضات سلام) وحتمية الحد من العدوانية الإسرائيلية (تجديد الحديث عن إخلاء الشرق الأوسط من أسلحة الدمار الشامل وعن ترتيبات أمن جماعي ملزمة).
دون الرضوخ لإملاءات أمريكية أو الصمت على سياسات وممارسات تنحاز إلى إسرائيل وتقوض الأمن العربي والأمن المصري وانطلاقا من رشادة الفعل السياسي والدبلوماسي المصري، ينبغي على القاهرة الحفاظ على علاقاتها الجيدة مع واشنطن والبحث المستمر عن فرص توظيفها الإيجابي.
والأمر هنا لا يرتبط بمساعدات عسكرية أو اقتصادية تقدم مصر نظيرها للولايات المتحدة تسهيلات هامة، بل يتصل بالدور الأمريكي المؤثر في ملفات الأمن الإقليمي في الشرق الأوسط (كالوساطة الثلاثية من مصر وقطر والولايات المتحدة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل وحماس) وفي القرن الإفريقي (حيث نحتاج إلى الوساطة الأمريكية للوصول إلى اتفاق عادل مع إثيوبيا بشأن مياه النيل) وفي قضايا التمويل الدولي (المفاوضات المستمرة مع صندوق النقد والبنك الدوليين).
لا مصلحة استراتيجية لمصر في التخلي عن علاقات الصداقة والتعاون مع الولايات المتحدة أو في إيقاف الحوار الدائر معها، إلا إذا اقتربت سياسات واشنطن من تهديد السيادة الوطنية والأمن القومي وتناقضت بالكامل مع رؤى ومصالح القاهرة. غير أن مصر لا مصلحة استراتيجية لها أيضا في قصر علاقات الصداقة والتعاون مع القوى الكبرى على الولايات المتحدة. خلال السنوات الماضية، تطورت إيجابيا علاقات مصر العسكرية والاقتصادية والتجارية مع الصين وروسيا والهند ومع دول تجمع بريكس الأخرى.
وفي ظل أوضاع الشرق الأوسط غير المستقرة والتحديات الواردة على أمننا القومي في جوارنا المباشر في السودان وليبيا وفي القرن الإفريقي، حسنا تفعل القاهرة بمواصلة العمل على بناء شراكات حقيقية مع بكين وموسكو ونيودلهي والنظر إليها كمكمل للعلاقات الخاصة مع واشنطن، وليس بديلا لها.
وفي ظل أوضاع السياسة العالمية وتقلباتها المتتالية (من عداء مستحكم بين الولايات المتحدة وروسيا سنوات إدارة جو بايدن السابقة إلى انفتاح وتفاوض وعلى الأرجح توافقات في القريب العاجل، ومن تحالف بين الولايات المتحدة وأوروبا إلى انقلاب إدارة ترامب على الحلفاء الأوروبيين ومغادرة خانات الدعم العسكري لأوكرانيا وتركها للأوروبيين إن أرادوا، ومن هدوء في العلاقات بين واشنطن وبكين إلى توترات مكتومة وعلنية متكررة)، يصير تنويع وجهات علاقات مصر الخارجية ومواطن التعاون الاقتصادي والتجاري ومصادر الحصول على السلاح والتكنولوجيا العسكرية أولوية استراتيجية لا تقبل المساومة (مهما رتبت من توترات مكتومة أو علنية مع الولايات المتحدة).
أما أوروبا، فعلى صناع القرار في مصر تكثيف مقاربتهم للقارة العجوز حول التعاون الاقتصادي والتجاري والتكنولوجي والعسكري والأمني وحول بعض القضايا الإقليمية التي تستدعي تضامن العواصم الأوروبية مع مواقف القاهرة والعواصم العربية. مهم للغاية أن تواصل مصر تطوير علاقاتها مع أوروبا وبرامج السياسات الحيوية المطبقة الآن في مجالات الطاقة البديلة والتنمية المستدامة ومبادلات الديون والسيطرة على الهجرة غير الشرعية ودعم اللاجئين، وكذلك أن تنمي علاقات التعاون العسكري والأمني مع بعض الدول الأوروبية.
مهم أيضا تأمين مواقف أوروبية دبلوماسية تؤيد الحق الفلسطيني في رفض التهجير والضم والحق المصري والأردني في رفض تهديد السيادة الوطنية والحق العربي في الربط بين التطبيع مع إسرائيل وبين إقامة الدولة الفلسطينية، خاصة حين تصدر التهديدات عن الولايات المتحدة. غير أن القاهرة عليها أن تدرك أن الوزن الاستراتيجي للأوروبيين في قضايا السياسة الدولية يتجه حتما إلى المزيد من التراجع فى قادم الأيام، إن بسبب الأزمات الداخلية المتراكمة في القارة العجوز أو بسبب تغير سياسات الإدارة الأمريكية الحالية عن سابقتها وما يبدو من استعداد واشنطن للانسحاب من مهام الدفاع عن أوروبا وحماية أمنها التي اضطلعت بها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية (1945) أو بسبب الصعود الاقتصادي والتجاري للصين التي تستحوذ على ما كان أنصبة تجارة الأوروبيين أو بسبب التهديدات العسكرية الروسية.
ويعني ذلك، من جهة، أن على مصر إعطاء الأولوية في صياغة وتنفيذ سياستها الخارجية لعلاقاتها في الشرق الأوسط مع الأشقاء العرب ولعلاقاتها عالميا مع الولايات المتحدة والصين وروسيا والهند، ومن جهة أخرى التعامل مع أوروبا اليوم كقوة عالمية تواجه خطر التراجع وانزواء النفوذ وإن ما زال في جعبة دولها بعض الأوراق الهامة.
(الشروق المصرية)