بصمات

الصّراع المذهبي... والتجاوز المطلوب

في وقتٍ تواجه الشعوب العربية عدّة أخطار وجوديّة تحيط بها كالسّوار بالمعصم، أبَت النعرات الطائفية إلّا أن تصمّ الأسماع وتعمي الأبصار، في منطقة مهدّدة بالخروج من دائرة الفعل التاريخي، وعودة الاستعمار العسكري القديم، وبأشكال من الهيمنة العالمية في القلب منها المشروع الصهيوني.

الصّراع المذهبي... والتجاوز المطلوب

أمام كل هذه الأخطار التي تحتاج إلى تكاتف عربي واسع، تظلّ المسألة المذهبية والطائفية معوّقًا أساسيًا أمام خلق حالة من التركيز على مواجهة الأخطار المهدِّدة، فلم يعد هناك مفرٌ من القفز إلى المستقبل بالتخلّي عن هذه الصّراعات المذهبية والطائفية التي جرَّت المنطقة كلّها إلى هوّة سحيقة، واستخدمها كل طامع في تنفيذ أجندات سياسية خدَمت في الغالب أطراف خارجية، دولية كانت أم إقليمية.

الصّراع المذهبي تحوّل إلى سلاح يُستخدم في تفكيك الأمّة

في هذا السّياق، لا يمكن للمرء إلّا أن يتقبّل بالسعادة تصريحات الإمام الأكبر أحمد الطيّب، شيخ "الأزهر الشريف"، التي أدلى بها خلال فعاليات "مؤتمر البحرين للحوار الإسلامي"، المُنعقد في المنامة في فبراير/شباط، والتي رفض فيها صراحةً الصّراع المذهبي بين السنّة والشيعة، وإنّه لا مسوّغ له في نظره لا من عقل ولا من نقل، وشنَّ هجومًا على الخلاف المذهبي وما أدّى إليه من تعصّب وصراع تمّ توظيفه من قِبَلِ تقلّبات سياسية في الشّقاق بين الشيعة والسنّة وشعوبهما أسوأ توظيف، وأشدّه خطرًا وفتكًا بوحدة الأمم وائتلاف شعوبها.

ما يقوله شيخ الأزهر على درجة كبيرة من الأهمية، في ظلّ روح الطائفية والمذهبية والجهل المقدّس تمرَح في بلدان العرب تدمّر وتزرَع الفرقة، في وقتٍ يتربّص الجميع بدول العرب، فلم تكن هناك بوابة دخلت منها ريح الفرقة والتقسيم مثل الصّراع المذهبي، الذي تحوّل إلى سلاح يُستخدم باستمرار في تفكيك الأمّة وجعل بأسها بينها شديدًا. نستطيع أن نلقي المسؤولية على الجميع، فالأنظمة العربية الوطنية فشلت في تقديم النّموذج المتجاوِز للطائفية والمذهبية، ربّما يكون الاستثناء في جمال عبد الناصر، الذي شكّل حالة متجاوزة لأي انقسامات طائفية بسبب التركيز على المشروع العربي الوحدوي، الذي بشّر بتحسين شروط الحياة للعرب عبر الوحدة وما تجرّه من مشروعات تكامل اقتصادي.

دور النّخب المثقّفة ثقيل في الدفاع عن قيم التعدّدية وتجفيف منابع التطرّف المذهبي

أمام حقائق التاريخ وفداحة الواقع، لم يعد أمام العرب إلّا تجاوز الميراث التاريخي في شقِّه السلبي المتمثّل في الصّراع الطائفي الذي لا يُستعاد منه إلّا ما يُعطّل ويُفرّق ويدفع للتقاتل، فعلى الرَّغم من أنّ الصّراع المذهبي والطائفي عطّل العرب في الكثير من اللحظات التاريخية، بل كان دومًا بوابة للخروج من حلبة التنافس الحضاري، إلّا أنّ البعض يصرّ عليه إحياءً لنعرات مصطنعة. فهل ينسى أحد أنّه عندما وقع الصّراع السياسي بين الفاطميين والعباسيين واستُخدمت فيه المذهبية، استغلّ الصليبيون الفرصة واحتلوا السّاحل الشامي؟ وهل تنسى الذاكرة العربية أنّ الصّراع العثماني - الصفوي اشتدّ في وقتٍ سيطرت فيه القوى الأوروبية على طرق التجارة البحرية التي كانت في يد العرب يومًا؟

إنّ الصراع المذهبي في حقيقته صراع سياسي، يعود إلى قرون خلَت، لا يمكن لعاقل أن يعيش في الماضي بأكثر من ذلك، لا انتقامات للأمويين ولا للعلويين، هذه الروح لا بد أن تحارَب حتى تضمحلّ وتنزوي، من يريد أن يتمذهب هو حرّ في ذلك، لكن لنفسِه، وفكرة أن يتمّ فرض تصوّره على الآخرين مرفوضة، كذلك أن يأتي بحمولة التاريخ السياسي ليُعيد إشعال جذوة صراعات قديمة ميتة. أظنّ هنا أنّ دور النّخب المثقّفة ثقيل في الدفاع عن قيم التعدّدية، وتجفيف منابع التطرّف المذهبي وعلاج كل تقيّحات تاريخ العرب والمسلمين بفتحها للنقاش الموضوعي بغرض تفريغ الحمولة السلبية للتاريخ السياسي المختلِط بالدّيني، لتحقيق التجاوز المطلوب.

عرب اليوم تربّى قطاع عريض منهم على الانغلاق وكراهية الآخر والانسياق خلف دعاة التحريم والانغلاق والتصوّرات المتخيّلة

نختم بصورة واقعيّة لمجتمعات العرب عندما كانت المذهبية والطائفية على الهامش، يقول ياقوت الحموي في كتابه (معجم الأدباء): "وكان (أي إبراهيم الصابئ) بينه وبين الصاحب أبي القاسم إسماعيل بن عباد مراسلات ومواصلات ومتاحفات، وكذلك بينه وبين الرّضي أبي الحسن محمد بن الحسين الموسوي مودّة ومكاتبات... مع اختلاف المِلل وتبايُن النّحل، وإنّما كان ينظمهم سلك الأدب، مع تبدّد الدِّين والنّسب". وهذه اللحظة التي يسجلها ياقوت تشكّل قمةً من قمم الانفتاح في مجتمعات العرب والمسلمين، قد تبدو غريبة لعرب اليوم الذين تربّى قطاع عريض منهم على الانغلاق وكراهية الآخر والانسياق خلف دعاة التحريم والانغلاق والتصوّرات المتخيّلة عن تاريخ العرب. وكانت مجالس العِلم وقتذاك مفتوحةً لأهل العلم من كل مِلّة ومذهب لا تُنكَر على أحد؛ إلّا فيما هو شأن الفكر من طرح الأمر والرّد عليه بالرأي والعقل، فنحن هنا أمام نصٍ يكشف مراسلات وصداقة بين عالِم من الصابئة وآخر من المعتزلة وثالثٍ من الشيعة.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن