إذا كان الإسلام يُشكّل عنصرًا مؤثّرًا في توجيه الوعي والمخيال الفردي والجمعي، فإنّ المؤسّسة الدينية الراهنة لم تُحسِن توظيف ذلك الرأسمال الرمزي المهدور توظيفًا مُحكمًا يُعزّز استقرار المجتمعات ويوجّه طاقاتها وجهودها نحو قضاياها الحقيقية. وليس من المبالغة الإشارة إلى وجود تراجعٍ خطيرٍ في نوعية الأدوار الإيجابية التي كانت تضطّلع بها المؤسّسة الدينية منذ منتصف خمسينيّات القرن الماضي. فالمؤسّسة الزيتونيّة - على سبيل المثال - أنتجت أبرز أعلام الثقافة والفكر الذين لا تزال تونس تحتفي بهم إلى اليوم، أمثال أبي القاسم الشابي والطاهر الحداد وعبد العزيز الثعالبي.
الارتقاء بأدوار المؤسّسة الدينية ممكن في صورة استئناف الخطّ التحرّري في تفهّم مقاصد الشريعة الإسلامية
لئن يمكن إرجاع ذلك التراجع إلى أسباب مُركّبة، فإنّه ممّا لا شكّ فيه تأثّر واقع المؤسّسة الدينية بارتجالية القرار السياسي وتبعيّتها الواضحة له ضمن مساعي "دَوْلَنَة المجتمع"، وهو ما يتجلّى في تكيّف المؤسّسة الدينية مع مختلف التقلّبات السياسية. يكفي التذكير في هذا الصدد بمسارعة المؤسّسة الدينية بعد سنة 2011 إلى الانخراط في موجة التشجيع على التسفير والجهاد في العراق وليبيا وسوريا. بينما كانت إلى وقت غير بعيد عن ذلك التاريخ منسجمة تمامًا مع خطاب التقريب بين المذاهب والحوار بين الحضارات والأديان.
يؤكّد واقع الخطاب الديني تلك المؤشّرات ويُعزّزها. إذ يتّصف غالبًا بالتذبذب والمخاتلة والمناورة ليس في قضايا الاجتهاد والتجديد فحسب، وإنّما كذلك حتى في أشدّ القضايا ارتباطًا به. إذ لا تكاد توجد أصوات قوية مندّدة بتصاعد حالات الانتحار في جميع الشرائح العمرية في تونس مثلًا. بينما كان الخطاب الديني حاسمًا إلى وقت قريب في هذا الموضوع مثلما عبّر عن ذلك شيخ الأزهر الرّاحل محمود شلتوت (تـ1963)، إذْ أكّد أنّ عدم حديث القرآن عن عقوبة المُنتحر هو تأكيد منه على أنّها أشنع من جريمة القتل المتعمّد للمؤمن ومن ثمّة فإذا كان جزاء القاتل المتعمّد جهنّم خالدًا فيها، فإنّ قاتل نفسِه ينتظره عقاب أكبر لأنّ جرمه لا تقوم به حتى الحيوانات العجم.
التطوّر إلى عقلانيّة إسلامية معاصِرة أمر ضروري لفهم الارتدادات التي أوصلت العالم العربي إلى حالة الذلّ والهوان
لقد عكس ضعف الخطاب الديني تآكل هياكل المؤسّسة الدينية وعدم قدرتها على التطوّر الذاتي ففقدت روح المبادرة والجسارة. وقد استغل هذه الوضعية البائسة المتربّصون بها للدعوة إلى إغلاقها بذريعة عدم جدواها. بينما كان من المفترض فيه الدعوة إلى إصلاحها وتطويرها في زمن ما يُعرف بـ"الفقيه الفضائي" و"إسلام السوق".
لا يمكن اليوم الحديث عن استقرار المجتمعات العربية من دون الارتقاء بالأدوار الموكولة للمؤسّسة الدينية وتطويرها لتكون في مستوى التحدّيات التي تواجهها المنطقة العربية، وهو أمرٌ ممكنٌ في صورة استئناف العمل المؤسّساتي والخطّ التحرّري في قراءة النصوص الدينية وتفهّم مقاصد الشريعة الإسلامية الذي باشره عدد من روّاد الفكر الإسلامي الحديث والمعاصر أمثال الشيخ محمد عبده والشيخ عبد المتعال الصعيدي والشيخ محمد الطاهر ابن عاشور وغيرهم.
تنظيم الأوقاف تنظيمًا عصريًا كفيلٌ بفتح آفاق جديدة في التنظيم الإداري والمالي للمؤسّسة الدينية العربية
إنّ تجاوز العراقيل التي أعاقت تطوّر استمرار ذلك الخطّ التحرّري وتطوّره إلى عقلانيّة إسلامية جديدة ومعاصِرة تخلّص العقل العربي الإسلامي من سباته وسكونيّته وعطالته، يُعدّ أمرًا ضروريًا لفهم جميع الانزياحات والارتدادات التي أوصلت العالم العربي إلى حالة الذلّ والهوان الراهنة. وهو ما يفسح المجال لتعزيز وعي العرب التاريخي بدل إغراقهم في عوالم موازية من الخرافة والأساطير.
يتطلّب تطوير المؤسّسة الدينية ضمان استقلاليتها المادية والمعنوية. ولئن يبدو هذا المطلب مقلقًا لبعضهم بالنظر إلى الصعوبات الاقتصادية التي تواجهها البلدان العربية، فإنّ إعادة الهيكلة والنّظر في نظام الأوقاف وتنظيمها تنظيمًا عصريًا بالاستفادة من تجارب غربية مقارنة، كفيلٌ بفتح آفاق جديدة في التنظيم الإداري والمالي للمؤسّسة الدينية العربية. وإنّ ضبط استراتيجية عربية موحّدة في تطوير المؤسّسة الدينية سيمكّن بلا شكّ من تحديد مؤشّرات دقيقة للوضعية الراهنة. وهو ما يساعد على ترشيد الجهود والطاقات للتطوير الجذري إذا سلمت الإرادة وتوفّرت القدرات المناسبة.
(خاص "عروبة 22")