بصمات

بين بيروت ومحمود درويش

ما عادت بيروت "خيمة العرب"، تبدّلت الأدوار والوظيفة في الذكرى الخامسة عشرة على رحيل الشاعر محمود درويش صاحب "لماذا تركت الحصان وحيدا".

بين بيروت ومحمود درويش

ما أن يُطرح إسمه، حتى تعود إلى الذاكرة تلك الظاهرة الدرويشية / البيروتيّة، التي كانت تقفل "فندق البريستول" على إيقاع فضاءات الحريّة، والتنوّع، وهو وبيروت صنوان.

يزور معرض كتاب "النادي الثقافي العربي"، فيستقطب الحالمين والثوريين من كل الجهات في ذلك الفضاء العام، الذي تحتشد فيه الأصوات، ويزدهر فيه النقاش والجدل، ومحاورة الذات والآخر في المدينة المولّدة للقاءات بين الثقافة والسياسة. اليوم بيروت بلا جدران، بلا وجوه، وبلا زمن. مفارقة غياب تلك الأصوات التي كانت تحدّد المشاهد والعبور الدائم. وليس مشهدًا واحدًا، الذي يعود، فتجتمع حوله كل المدينة. كأنها في سفر تكوين القصيدة، التي ارتجلها كلامًا نثريًا، فتحوّلت "مانشيت" الصحافة اللبنانية على اختلافها وتعدّديتها.

بيروت مختبر الأفكار والتجارب والثقافات والإيديولوجيات، وساحة الصراع بين الهوّيات والأنظمة

كأنه صانع اللغة، وعودة ملامح المكان، زمانه الخاص، والمكان الخاص به،  في المدلولات المعنوية لتجربة مدن ولقاءات غنيّة بحدثها وجديتها، خارج منطق المدن الاستهلاكية. قصيدة ترسم ذاكرتها في المستقبل.

تغيّرت بيروت. ليس الأمر عن عبث، وفقدت وظائفها بكل ما يشير الى وجهها المرتبط بعالم إنساني عام وأبعد. كانت أكبر من مجرّد مدينة وعاصمة، لأنها احتوت في روحها وظائفها المتعدّدة، دورها التواصلي والمعرفي، دورها الكوزموبوليتيّ المتميّز بين الشرق والغرب. فأعطت فلسطين والعرب هوّيتها. الساحرة أعطت اسمها جيلين وأكثر.

بيروت بين زمنين. لقاء وافتراق. هي مختبر الأفكار والتجارب والثقافات والإيديولوجيات، وساحة الصراع بين الهوّيات، وكذلك الأنظمة، عبر ذلك الفضاء الواسع، الذي تحرّكت فيه التعدديات المتناقضة والمتجادلة. فقدت بيروت ذلك الفضاء من الحرية، وما عززته تطلعات أبنائها إلى أمكنة جديدة وتحولات ومتغيرات، بالانتقال من زمن إلى آخر. هذا يسري بكمّ من المشكلات أفقدت المدينة مزاياها، وغضّ النظر العربي عنها، لذلك يهدّد لبنان بإعادته إلى العصر الحجري. ليس بعيدًا عن الزمن الحجري الأول والثاني، وما وراء ذلك، تلك "البلاهة السياسية"، بالنظر إلى لبنان باعتباره مصالح متناثرة، على تناوب الأحوال الملتبسة في مدينة كانت تسعى فعلًا لتكون مدينة، تتجاوز كل المحيط القريب والبعيد منها. فأصابتها صدمة الحداثة في الجوهر، وفي قيمها الأساسية وفي أبنائها.

فقدت ميناءها الذي كان يعني التواصل الاجتماعي المفتوح، وخصائص المجتمع العربي الأكبر والأشمل

ففي المدينة تتأسّس القيم. ليس تحت طائلة رفاهية العيش وما كان مضمونًا بشكل نهائي. فأتت الأزمات من كل حدب وصوب، وإنفجارات وانهيارات متتالية. وليس هناك في الأفق من إستثمار عربي ينمو وينقذ لبنان. ليست كل المدن مؤهلة لتتحوّل فيها قصيدة محمود درويش إلى وطن، إلى حكايات وأسرار ولغة باحتمالاتها الممكنة.

بيروت كانت تختار مثقفيها في الشعر والأدب والفكر والفن. هي التي منحتهم مواقعها الطليعية. هي التي دشّنت النهضة العربية الأولى والثانية وكل تجريبية جديدة. فوقعت في "أوديسيتها" القاتلة.

قُتلت بيروت محمود درويش وقُتل أبناؤها وأفكارها الحداثية والجذرية وثوراتها. ما عادت وصفة لصناعة حداثة ورافعة لها. فقدت ميناءها، الذي كان تاريخًا على شاطئ المتوسط، يعني التواصل الاجتماعي المفتوح، وخصائص المجتمع العربي الأكبر والأشمل. ضاعت "تفاحة البحر" مع وفاة اهراءات القمح، وتشرّدت نجمة "حصار مدائح البحر" في الحروق التي أصابتها والأحزان والتحجيم والتطويع، وهرب الكثيرون من حمايتها لمصالح جيوسياسيّة محيّرة. ما عاد الإهتمام بلبنان بهذا الاتساع، أو ذاك. صورة هاربة تاركة ناسها. التاريخ السياسي المجنون، ما خلا هوامش متفائلة بين التمويه والتسوية السياسية والمسؤولية الأخلاقية، تتحرك وسط الخطر الداهم، وتستثمر في تقنيّة البقاء.

دنيا القصيد بيروت. هذا يعني عودة بيروت إلى بيروت وعودة العرب إلى بيروت. القصيدة العالقة بين عالمين وجيلين متصارعيّن.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن