كانت نهاية دموية فاجعة تلك التي ختمت الأشهر الثلاثة الأولى من حكم السلطة الجديدة في دمشق، أكلت من الرصيد الإيجابي الكبير لحملة "ردع العدوان" التي أسقطت نظام الأسد بلا إراقة دماء تقريباً. مئات القتلى بين مدنيين أكثرهم من العلويين، وعناصر الأمن العام، نهب ممتلكات وإحراقها، إذلال وإهانات مصورة في مقاطع فيديو انتشرت على وسائل التواصل، إضافة إلى فبركات كثيرة وخطاب كراهية منتشر زادا النار أواراً. حرب أهلية مضغوطة في بضعة أيام ظن السوريون أنهم نجحوا في تجنبها في بداية عملية التحرير.
ثلاثة أشهر خسرتها سوريا بلا أي إنجاز يذكر على طريق بناء سوريا الجديدة المأمولة، وكأنها كانت في حاجة للمذبحة الكبيرة التي جرت فصولها المشينة في مدن الساحل وأريافها لتراجع السلطة نفسها وحساباتها. حكومة مؤقتة انتهى مفعولها منذ تشكيلها الأحادي، فشلت في كل شيء بما في ذلك فتح قناة تلفزيونية رسمية كمصدر موثوق لبياناتها وتصريحات أركانها وأعمالها، حتى لا نتحدث عن أي تحسين في حال الخدمات العامة كالكهرباء، بل إن الارتفاع الوهمي لسعر صرف الليرة السورية مع استمرار حالة التضخم وتفاقمها كان وبالاً على السوريين، إضافة إلى تسريح آلاف أو ربما عشرات الآلاف من وظائفهم والإلقاء بهم في هاوية الجوع.
أما انعقاد ما سمي بمؤتمر الحوار الوطني فلم يتجاوز كونه بحثاً عن شرعية مصطنعة لم تكن السلطة في حاجة إليها. بالمقابل نسيت السلطة وعودها المتكررة بشأن تشكيل حكومة جديدة أوسع تمثيلاً في مطلع شهر آذار. بالمقابل لا يمكن إنكار أن ثمة خططا مدبرة من الخاسرين من سقوط نظام الأسد، الفلول وإيران وإسرائيل نفسها، هي ما أوقعت السلطة في هذا الفخ الدموي. الكمائن التي نصبتها الفلول للأمن العام كانت الشرارة التي أطلقت سلسلة من الأخطاء كالنداء الذي أطلق للنفير العام وسمح بدخول الجهاديين الأجانب وبعض فصائل الشمال المنفلتة إضافة إلى متطوعين مدنيين ممن تحركهم أحقاد طائفية ارتكبوا بمجموعهم أكثر الفظاعات على ما تفيدنا شهادات متواترة.
لقد زجت السلطة بشبان يفتقدون إلى الخبرة القتالية (الأمن العام) في معركة مطاردة شبيحة وضباط النظام السابق ممن لديهم خبرة كبيرة في القتال والانتهاكات، في مناطق جبلية يعرفون تضاريسها جيداً مقابل جهلها لدى عناصر الأمن العام الذين حصلوا على دورات عسكرية سريعة و"دورات شرعية"! فوقعوا في كمائن الشبيحة بسهولة.
أصابع إيران في تمرد الفلول لا تخفى، فقد دعا إليه المرشد علي خامنئي جهاراً نهاراً قبل أسابيع، وتم تشكيل "مقاومة شعبية" مزعومة و"درع الساحل" ومجالس عسكرية بقيادة ضباط معروفين كغياث دلا وإبراهيم حويجة ومقداد فتيحة وغيرهم. وثمة معلومات صحافية عن تنسيق محتمل مع كبار ضباط النظام الساقط الموجودين في موسكو وقد سمحت لهم السلطات الروسية باستخدام أرقامهم السورية على تطبيق واتس آب.
كان لافتاً، في هذا السياق الرسالة التي وجهها رامي مخلوف معلقاً على تلك الأحداث الدامية، فقد أشار إلى ضباط الفرقة الرابعة بصورة مباشرة متهماً إياهم بتأجيج الصراع و"المتاجرة بدماء العلويين" حسب تعبيره. وقال مخلوف إنه سيعود إلى المشهد السياسي مجدداً في الوقت المناسب وإنه على "تنسيق مباشر" في هذا الإطار من غير أن يوضح الجهة التي ينسق معها. فإذا أخذنا بسوابق من "تسويات الوضع" كحالة محمد حمشو أو فادي صقر وزير الداخلية السابق محمد الشعار، يخشى أن تكون السلطة بصدد "إدماج" مخلوف أيضاً في مرحلة "ما بعد الطوشة" في خطأ جديد لن تساهم في "طمأنة العلويين" كما قد تتوهم السلطة.
فأمام هذه مروحة واسعة من الخيارات من شخصيات محترمة في "المجتمع العلوي" لم تتلوث بداء الأسدية إذا أرادت السلطة التباحث معهم بشأن تضميد الجراح وفتح صفحة جديدة. ولكن يبقى أن الطريق الأسلم إلى ذلك يمر عبر إتاحة الشروط اللازمة لقيام لجنة تقصي الحقائق بعملها بصورة جدية وأن تتمكن هذه اللجنة من تحديد المتهمين بالانتهاكات ثم تقديم هؤلاء إلى القضاء بلا أي تلاعب أو التفاف. على أن يكون هذا مقدمة لإقامة عدالة انتقالية لا يجوز تأخيرها أكثر مما حصل. فهذا هو الطريق لطي صفحة الماضي والبدء بترميم النفوس قبل إعادة إعمار المباني.
لقاء الشرع وعبدي في قصر الشعب: شكل هذا اللقاء الذي شهد توقيع الرجلين على اتفاق إطار بين السلطة المركزية وقوات سوريا الديمقراطية مفاجأة طيبة للسوريين المفجوعين بالدم الغزير الذي سال قبل أيام. فهذا الاتفاق يبشر بطي صفحة العقدة الأكثر صعوبة في بناء سوريا الجديدة، بالنظر إلى تداخل عوامل محلية وإقليمية ودولية فيها، وبالنظر إلى المساحة الجغرافية الواسعة التي تسيطر عليها قسد وتضم ثروات البلاد الزراعية والنفطية.
حين انتشر خبر الاجتماع والتوقيع كان ثمة قلق بشأن الموقف التركي من هذا الحدث، لكنه سرعان ما تبدد من خلال تصريحات مؤيدة له على لسان الرئيس التركي بالذات، وهو ما لا يمكن فصله عن مسار الحل السلمي الذي تعمل عليه الدولة التركية بالشراكة مع عبد الله أوجلان الذي وجه حزب العمال الكردستاني بإلقاء السلاح وحل منظماته. يمكن القول إذن إن "طبخة" كبيرة نضجت ومن المحتمل أن تينع ثمارها سريعاً على خط دمشق ـ أنقرة ـ إيمرالي ـ قنديل مع مظلة دولية غير خافية من واشنطن وباريس. سنرى في الأسابيع القليلة القادمة كيف سينعكس ذلك إيجاباً على مختلف الملفات الداخلية في سوريا.
ترى هل يتم حل "الجيش الوطني" بالتوازي مع حل "قسد"؟ هل يتم تسليم من قد تتهمهم لجنة تقصي الحقائق من عناصر فصائل الجيش الوطني للقضاء، أم نشهد صراعاً مسلحاً جديداً في الشمال لتحقيق ذلك بالقوة؟ وهل كان في تأخير تشكيل الحكومة الجديدة خيراً، وأنها قد تكون بتشكيلتها المأمولة من حيث الشمول مفاجأة ثانية تضاف إلى إنجاز الاتفاق الإطاري؟ وهل يحل مقاتلون من قسد محل شبان الأمن العام في محاربة الفلول في مناطق الساحل الوعرة، في ترجمة لأحد بنود الاتفاق الإطاري المخصص للتعاون بين الطرفين في محاربة الفلول؟
أسئلة بين أخرى كثيرة طرحها الواقع الجديد الذي ظهر بعد لقاء الشرع وعبدي، سنراقب الأجوبة عليها في الأيام والأسابيع القادمة. الرحمة لشهداء الأيام السوداء في الساحل من مدنيين وأمن عام، القصاص العادل للقتلة.
(القدس العربي)