وجهات نظر

"الموت الحلال" على الشواطئ الأوروبية!

هل ما زالت مشاعرك تتحرّك كلّما قرأت تقريرًا أو خبرًا مختصرًا عن حوادث الغرق اليومي لقوارب اللاجئين الساعين للوصول إلى "شواطئ النعيم" في أوروبا هربًا من الحروب الأهلية أو الفقر المدقع والمجاعات في بلادهم، مما يجعل مخاطرة الموت تهون مقابل البقاء في مثل تلك الظروف؟.

للأسف لم يعد أحد يهتمّ إذا غرق قارب يحمل مهاجرين ومات كلّ من كانوا على متنه، بما في ذلك النساء والأطفال، وربما قد لا يكترث القائمون على وسائل الإعلام بنشره كخبر بارز من الأساس على اعتبار أنه خبر يتكرّر كلّ يوم تقريبًا. وهذا هو ما حدث مع قارب انطلق من السنغال في 10 يوليو/تموز الماضي يحمل مائة مهاجر أملًا في الوصول إلى جزر الكناري الخاضعة لسلطة إسبانيا في المحيط الأطلنطي.

لقي ما يزيد عن ستين من الركاب مصرعهم غرقًا، بما في ذلك أطفال ونساء، ولكن لم يعرف أحد بغرق القارب إلا في منتصف شهر أغسطس/آب الحالي بعد أن تمّ العثور على ركام القارب على بعد 240 كلم شمال جزر الكناري.

نفاق أوروبي وصمت يصل إلى حدّ الجريمة في التعامل مع ملف المهاجرين غير الشرعيين

أما في الواقع الذي نعيشه منذ سنوات، ومع تزايد نفوذ أحزاب اليمين الشعبوي والعنصري في أوروبا، فسيصبح في الأمر خبر يستحقّ مساحة للنشر لو قامت إحدى الدول الأوروبية الغنيّة بشكل استثنائي بإنقاذ ركاب أحد قوارب الموت على مضض والموافقة على دخولهم "جنّات النعيم"، حيث أن هذا بات أمرًا نادر الحدوث.

وما يكشف نفاق الدول الأوروبية وصمتها الذي يصل إلى حدّ الجريمة في التعامل مع ملف المهاجرين غير الشرعيين، أنّ تلك الدول نفسها التي تصدع رؤوسنا عن التحضّر واحترام حقوق الإنسان تقوم في السنوات الأخيرة بتوقيع اتفاقيات تكلّفها مليارات الدولارات مع الدول التي تُعدّ منطلقًا للهجرة، وكلّها تقريبًا في شمال أفريقيا (مصر، ليبيا، تونس، المغرب) من أجل القبض على المهاجرين ومنع وصولهم إلى دول أوروبا من الأساس. كما تقدّم حكومات أوروبية مختلفة وعودًا سخية بمساعدات لتلك الدول ودول أفريقية أخرى لو قبلت ترحيل المهاجرين إليها وخلّصتهم من تلك المشكلة.

وربما كانت أزمة مئات اللاجئين الأفارقة الذين علقوا على الحدود في الصحراء بين ليبيا وتونس مؤخرًا لمدة تفوق الشهر في ظروف غير إنسانية ووفاة عدد منهم، بما في ذلك أطفال، مجرد نموذج مصغّر لحجم تفاقم المشكلة في الدول التي يطالبها الأوروبيون الأغنياء "أصحاب المشاعر المرهفة" بمنع المهاجرين من الإبحار من شواطئها.

هذا بجانب معسكرات الاعتقال في ظروف غير آدمية في ليبيا، وما ورد في تقرير أصدرته الأمم المتحدة في مارس الماضي يتّهم فيه الدول الأوروبية بتمويل الأجهزة الأمنية وحرس الحدود في ليبيا التي تتورّط في الإتجار في البشر والتعامل مع المهاجرين كعبيد يساوي كلّ فرد منهم عدة مئات قليلة من الدولارات. وبمعنى آخر فإنه بدلًا من قيام الأوروبيين بـ"الأعمال القذرة" واعتراض قوارب الموت بأنفسهم، فإنهم يريدون أن يوكلوا هذه المهمة إلى قوات خفر السواحل الليبية والتونسية.

وتقدّر الأمم المتحدة أنّ نحو 27800 لاجئ قد لقوا مصرعهم او اختفوا في البحر المتوسط منذ 2014، وبالطبع الرقم الحقيقي أعلى من ذلك بكثير. وفي العام الحالي الذي لم ينتهِ بعد، لقي نحو 2000 شخص مصرعهم وهم يحاولون الوصول إلى أوروبا، ومن ضمنهم 600 من ضحايا المركب الذي غرق قبالة السواحل اليونانية قبل شهرين، وكان معظم ضحاياه من المصريين والسوريين والفلسطينيين والباكستانيين.

وفي حالة إنجلترا التي تشهد بدورها موجات من القوارب الآتية عبر البحر مع فرنسا، فلقد أبدعت اتفاقًا لم يكلّل بالنجاح مع رواندا لإعادة توطين اللاجئين فيها. وعندما أوقفت المحاكم البريطانية القرار في شهر يونيو/حزيران الماضي بناءً على اعتراضات عدد من منظمات حقوق الإنسان، كان البديل توطينهم في عوامات ضخمة شكا المقيمون فيها أنّ المياه غير صالحة للشرب على متنها. كما أقرّت قانونًا للهجرة يمنع المهاجرين الذين وصلوا إلى المملكة المتحدة بشكل غير قانوني من طلب اللجوء، في "انتهاك لالتزامات البلاد بموجب القانون الدولي لحقوق الإنسان واللاجئين" وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين التابعة للأمم المتحدة.

حتى وقت قريب، كان الأوروبيون يشكون من موجات الهجرة القادمة من أفريقيا، أما في السنوات العشر الأخيرة، فلقد انضمّ العديد من مواطني الدول العربية لقائمة طالبي اللجوء، بدايةً في العراق منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، وبعد ثورات الربيع العربي في 2011 تصدّر السوريون بالملايين أعداد اللاجئين، كما تصاعدت معدلاتهم من تونس ومصر ولبنان وفلسطين والمغرب، ومؤخرًا بعد اندلاع الحرب بالسودان بدأت موجة لجوء جديدة ونزوح داخلي للملايين.

الموت الجماعي للأفارقة والعرب في قوارب الرعب لا يؤرق "الأوروبيين المتحضّرين"

نحن الآن أمام مشكلة عويصة لا يمكن حلّها عبر اتفاقيات مزرية يوقّعها الأوروبيون مع الدول المعنية، والتي قد تنقذ حكومات تلك الدول عن طريق عدة مئات الملايين من الدولارات، ولكن من المؤكد أنها لن تنهي مطلقًا أزمة تدفّق اللاجئين في ظلّ تصاعد الأزمات السياسية والاقتصادية في العديد من الدول في منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، والتي كان آخرها وباء كورونا ثم اندلاع الحرب الروسية - الأوكرانية.

هذا الموت الجماعي للأفارقة والعرب في قوارب الرعب لا يؤرق "الأوروبيين المتحضّرين". فالموت على الشواطئ الأوروبية ومنع وصولهم لبلادهم بالقوة "حلال". أما عندما يموتون في بلادهم فقرًا أو كوقود لحروب بين القائمين على حكوماتهم الفاسدة، فهذا انتهاك مرعب لحقوق الإنسان يستحقّ الإدانة والاستنكار!.

الجدل بشأن الهجرة الشرعية وغير الشرعية يتركّز دائمًا حول كيفية منع الفقراء من الوصول للدول الغنية بدلًا من طرح القضايا الأكثر عمقًا وواقعيةً بشأن استغلال الغرب الاستعماري لموارد الدول الأفريقية بينما شعوبها تعيش في فقر مدقع، وكذلك المعايير المزدوجة في تعريف حقوق الإنسان حيث تتساهل تلك الدول مع انتهاكات مفزعة لحقّ أساسيّ وهو الحق في الحياة على حدودها، بينما تدّعي رفع لواء تلك الحقوق في المحافل الدولية.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن