كلّ الاحتمالات منفتحة على بعضها البعض، إذ إنّ العالم الرّقمي اختزل العالم الطبيعي في آلة الوصل والتواصل الرّقمية. ولا شكّ أنّ مسيرنا العلمي في هذا الاتجاه لم يَزَلْ في بداياته، ولم نَزَلْ بعدُ نستكشف، ونتلمّس مساراتنا هنا وهناك، فالتسارع رهيبٌ بيننا وبين الآلة الذّكية التي تكاد تنفصل عن قبضة الذكاء البشري، ما يُذكي وتيرة التوجّس من مآلات المستقبل الإنساني الغامض.
مجتمعاتنا العربية مستهلكة للتكنولوجيا ولا تتحكّم بمستورداتها التّقنية
إنّنا الآن، في مرحلة حرجة من محاولة وضع توجّهات البحث العلمي في هذا السياق التكنو-اجتماعي الجديد. كيف نجزم بأنّنا نسير في الاتجاه الصحيح؟ وماذا يعني "الصحيح" في تصوّرنا الجديد للحياة؟ والمستقبل المنشود؟.
يمكن أن يتحقّق البحث الناضج في التحوّلات البشرية الآلية ومعرفة التغيّر الاجتماعي الآلي الجديد من خلال تحديد مسارات بحثيّة مهمة في هذا الشأن. هناك على الأقل خمسة مسارات بحثيّة منظورة، تتوجّه وفقها معظم الجهود البحثيّة العالمية، تخصّ مجتمعاتها والمجتمعات الأخرى التي توجّه إليها صادراتها التّقنية الحاسوبية، وبخاصة مجتمعاتنا العربية المستهلكة للتّكنولوجيا المستوردة... ما هي هذه المسارات؟ وكيف يمكن أن تكون؟ خصوصًا من وجهة منظورنا وواقعنا العربي:
أوّلًا: بحث التغيّر الاجتماعي الذي تُحدثه الظاهرة الإلكترونية في المجتمع الطبيعي المعني. ربّما، هذه المسألة هي ذات أولوية في مجتمعاتنا العربية أكثر من المجتمعات الأخرى المتقدّمة. ذلك أنّ المجتمعات العربية لا تتحكّم بمستورداتها التّقنية، وعلينا على الأقل، أن نتعرّف إلى الأبعاد المختلفة للتّكنولوجيّات المستخدمة، وتوجّهاتها الكوْنية، وعلاقة ذلك بتوجّهاتنا المحلية.
ثانيًا: تركيز البحث على المجتمعات الافتراضية، من حيث بناؤها وتطوّرها. والاهتمام بشكلٍ خاص بحالات بحثيّة معينة، وإخضاعها للدراسات الإمبريقية.
بأيّ تكنولوجيا يمكن لنا بحث التّكنولوجيا الغربية وكيف يمكن تطوير تطبيقات برمجيّة عربية منافسة للمنصّات العالمية؟
ثالثًا: البحث في التّكنولوجيات المُهيمنة والمُنافسة. في مقدّمتها البرمجيّات والعتاد والشبكات المتنوعة، وارتباطاتها بالتفاعل الاجتماعي الإلكتروني، ومُنعكساتها في المجتمعات الطبيعية. وتحليل كيف تحدث تأثيراتها المختلفة، وحدودها وتنبؤاتها. هل يمكننا نحن العرب القيام بذلك؟ بأيّ تكنولوجيا عربية يمكن لنا بحث التّكنولوجيا الغربية المهيمنة؟ وكيف يمكن أن نقارنها؟ هذه وظيفة خاصّة بالبحث العربي في هذا المسار تحديدًا.
رابعًا: المنصات الإلكترونية التفاعلية، كأمثلة للمجتمعات الافتراضية. دراسة حالات محدّدة. والحقيقة، ربّما معظم المنصات الإلكترونية العالمية تتطلّب البحث في مقدّراتها ومزاياها ونقاط قوّتها وضعفها. وكيف حدث تطويرها، وإلى أي مدى يمكن أن تتطوّر، وماذا ينافسها، وكيف يحدث ذلك، إلخ؟... كلّ هذه التساؤلات جديرة بالبحث عن إجابات كافية شافية لها.
خامسًا: إمكانية تطوير منصّات وتقنيات إلكترونية بدرجةٍ عاليةٍ من الجودة التقنية والمزايا المنافسة. وبطبيعة الحال، هذه مسؤولية بحثيّة عربية بالدرجة الأولى. كيف يمكن تطوير تطبيقات برمجيّة اجتماعية عربية منافسة للمنصّات العالمية؟ وتتصدّر المشهد التواصلي العربي الرقمي لسنواتٍ طويلة؟ تفرض نفسَها، وتظل جاذبةً للمستخدم العربي خاصة، وتحقّق أهدافها الخدمية والتنموية والاستثمارية المختلفة؟...
تبقى مسألة النظريّة الاجتماعية التي تُعيننا على بحث ودرس التغيّر التّكنو-اجتماعي. في ضوء أيّ نظرية اجتماعية يمكننا بحث التغيّر الاجتماعي في المجتمعات الافتراضية؟ رصده وتحليله وتفسيره، والتوصّل إلى نتائج علمية رصينة بشأنه؟!
هناك نظريات عديدة جديرة بالتأمّل في حركة الفضاء الآلي (السايبري) الأوسع... وجميعها يمكن أن يشارك استخدامُها في فهم التغيّر الذي يحدث في هكذا فضاء متشابك بين الحراك البشري والحراك التّكنولوجي المُرَقْمَن. فمثلًا، تنشأ فيه المجتمعات الافتراضية، وتتطوّر... ويحدث بناؤها الوظيفي من خلال التفاعل... كما يحدث فيه التوازن والتكافؤ من خلال التبادل المعرفي والتقني... وكذلك، يحدث فيه الصراع التكنو-اجتماعي من خلال الثقافة واللغة والتسابق التّكنولوجي... وفي كلّ هذه الأحوال هناك الفعل الاجتماعي المُقاد بالتكنولوجيا... كما هناك تمثّلات الحب والكره بين المتفاعلين... وهناك التغيّرات البيئية المتمثّلة في أنظمة التشغيل الحاسوبية والشبكية والبنى التحتية التقنية... وغير ذلك من التمثّلات والمُمارسات التكنو-اجتماعية المختلفة، والتي بدورِها تعكس الظواهر المجتمعيّة الطبيعية المتعدّدة، اجتماعية ونفسية وثقافية وسياسية واقتصادية ودينية وفكرية وإعلامية وقانونية وإبداعية، بأنواعها...
إذن، لا تُعدم جوانب الجدوى المتنوّعة في استخدام النظريات الاجتماعية المعروفة؛ مثل النظرية البنائية الوظيفية، ونظريات التفاعل، والتوازن، والصراع. وأيضًا نظرية الفعل الاجتماعي، ونظرية الحب والكره، إلخ...
أي تخطيط وتنفيذ أو توجيه أو تغيّر رقمي إنّما يدور على تفاعلات الإنسان-الحاسوب
أخيرًا، تجدر الإشارة هنا، إلى أنّ بحث التغيّر الشبكي الآلي، يعتمد أساسًا على وحدة التحليل الاجتماعية الجديدة التي ساهمنا في تقديمها وفصّلنا فيها القول، في كتابنا "علم الاجتماع الآلي" (سلسلة عالم المعرفة الكويتية، العدد: 347، يناير/كانون الثاني، 2008). فلم تعُدْ وحدة التحليل السابقة بمفاهيمها التقليدية تُسعفنا في البحث الرقمي الافتراضي؛ مثل الجماعة الاجتماعية، أو الأسرة، أو القبيلة، أو غيرها... بل أصبحت "الفرد الافتراضي"، وهو الفرد-الجماعة المُرَقْمَن، الإنسان-الحاسوب، الذي اختصرناه وأسميناه "الإنسوب". إنّه نظريًّا وعمليًّا مدارُ حركة الإنترنت برمّتها، وإنّ أي تخطيط وتنفيذ أو توجيه ونمذجة تقنية سايبرية، أو تغيّر رقمي، إنّما يدور على تفاعلات هذا الإنسوب في أي ظاهرة من الظواهر التكنو-اجتماعية.
لقراءة الجزء الأول
(خاص "عروبة 22")