"هل أَدَنْتَ "حماس" اليوم؟".. لم يكن السؤال الذي بدا يومها ساخرًا أكثر من قراءةٍ مبكّرةٍ لما سيبدو عليه الحال حينما تنجح البروباغاندا الإسرائيلية في اختزال الجريمة الكبرى التي ما زالت مستمرّة في القطاع المحاصَر منذ عقديْن من الزّمان على أنها لا تعدو أن تكون حربًا على "حماس" (الإرهابية، كما يصفونها) على الرَّغم من حقيقة أنّ عدد ضحايا حرب الإبادة الوحشية تلك جاوز المائة وخمسين ألفًا بين شهيدٍ ومصابٍ؛ أكثريتهم السّاحقة من النساء والأطفال.
نجحت البروباغاندا الإسرائيلية، أو فلنقل إرهاب الدعاية الإسرائيلية، في جَعْلِ الحديث عن جريمة الإبادة الجماعية، أو حتّى إدانة قتل الأطفال في غزّة، "دفاعًا عن الإرهاب... واصطفافًا إلى جانب منظمة إرهابية" لا يستوجب فقط الاعتقال أو الطرد من الولايات المتحدة الأميركية، بل وأحيانًا من غيرها من بلدان غربيّة.
الاستعمار الاستيطاني الصهيوني بدأ في ثلاثينيّات القرن الماضي في حين لم تظهر "حماس" إلا بعد 5 عقود من "النكبة"
ثم كان للأسف أن استُدرج بعض العرب المستقطَبين إلى الفخّ، أو ربّما استحسنوه، فبدأوا في إدارة المسألة إعلاميًا، بل وحتّى ديبلوماسيًا على أن المشكلة هي "حماس"، وأنّه لو لم تكن "حماس" ما كان هناك ثمّة مشكلة، وبالتّالي فإنّ الحل الذّهبي للحاضر والمستقبل (وربّما لمشكلة الاحتباس الحراري) ليس فقط التخلص من "حماس"، وبالمرّة من تيّارها الفكري، بل ومن "المقاومة" كفلسفة، أو عقيدة فكرية لمواجهة الاستعمار والاحتلال والظلم. وهذا ما يعنينا، أو بالأحرى هو بيت القصيد.
بدأها البعض في البداية على استحياء، ثم كان، كما فعل الإسرائيليون، أن استغلّ مأساة الفلسطينيين اليومية؛ حربًا، وتجويعًا، وتشريدًا ليرفع صوته متهمًا المقاومة (لا الإسرائيليين؛ المُدانين من قبل المحاكم الأممية) بالمسؤوليّة عن الإبادة والتجويع.
تعالوا لنسأل السّؤال البسيط المباشِر: هل السّلوك العدواني "التوسّعي" لدولة الاحتلال الإسرائيلية يرتبط حصرًا بـ"حماس"؟
وهل من الحقيقي أن "العدو" الإسرائيلي لم يرفع سلاحًا، ولم يهدّد وجودًا عربيًا إلا بعد السابع من أكتوبر/تشرين الأول، كما تحاول إفهامنا الدعاية الصهيونية؟!.
ألا نعرف جميعًا أنّ الاستعمار الاستيطاني الصهيوني للأرض الفلسطينية مع كل ما تبعه من فظائع الاحتلال والعدوان والتوسّع، بدأ في ثلاثينيّات القرن الماضي، في حين لم تظهر حركة المقاومة الفلسطينية (حماس) إلا في عام 1987 أي بعد خمسة عقود من بداية "النكبة"؟
ألم نقرأ جميعًا الوثائق التي عرضنا بعضها في هذا المكان عن خططٍ إسرائيلية تعود إلى ستينيّات القرن الماضي (قبل أن تكون هناك "حماس") لإخلاء غزّة من سكّانها لتصبح إسرائيلية خالصة.
ألا نعرف أنّ "حماس" لم تكن قد ظهرت حين قامت إسرائيل باجتياح سيناء المصرية في أكتوبر/تشرين الأول 1956 بعد تأميم جمال عبد الناصر لقناة السويس (المصرية).
يريد الإسرائيليون أن ننسى ثمانية عقود من الحرب لنصدّق أنّ حربهم لم تبدأ إلا في السابع من أكتوبر
لم تكن "حماس" قد ظهرت، تنظيمًا أو حتى فكرةً حين قام الإسرائيليون بدفن الأسرى المصريين أحياء في خمسينيّات وستينيّات القرن الماضي (إحدى الجريمتين تناولها وثائقي عُرِضَ في التلفزيون الإسرائيلي ذاتِه، كما نشرت صحيفة "هآرتس" الإسرائيلية تفاصيل ووثائق الجريمة الأخرى في تحقيق استقصائي مطوّل).
كما لم تكن "حماس" موجودة، حين ارتكب الصهاينة مذابح دير ياسين (الفلسطينية)، أو مدرسة بحر البقر (المِصرية)، أو صبرا وشاتيلا (اللبنانية).
بعد قتل الآلاف من النساء والأطفال، في محاولة لدفع فلسطينيي غزّة إلى مغادرتها، يريد لنا الإسرائيليون أن نصدّقَ أنّهم لا يحاربون سوى إرهابيي "حماس"!، كما يريدون لنا أن ننسى ثمانية عقود من الحرب لنصدّق أنّ حربهم لم تبدأ إلا في السابع من أكتوبر/تشرين الأول.
في هذا المكان، وقبل عام ونصف العام كتبتُ لأحذِّرَ من "المصطلحات البديلة"، والتي بدا لي وقتها أنّ هناك منهجية إعلامية لترسيخها؛ قلبًا للحقائق، وغسيلًا للأدمغة. واليوم، حين أطالع الأخبار (هنا وهناك) أخشى أن أقول إننا نكاد نرى حصاد تلك الاستراتيجية الإسرائيلية الشيطانيّة تؤتي ثمارها، مما قد يستوجب العودة إلى التذكير، والتحذير:
- يقول لنا التاريخ إنّ الحرب على الفلسطينيين "الشعب" بدأت منذ أربعينيّات القرن الماضي، تحت الشعار الشهير "أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض".
- وتقول لنا الحقائق على الأرض إنّ الحرب على "فلسطينيي الضفة" تواصلت بقرارات الضم، وتوسيع المستوطنات، والاجتياحات والاغتيالات اليومية. ثم بالإعلان الصّريح عن التوجه نحو ضم "يهودا والسامرة" باعتبارها أرضًا يهودية مقدّسة.
- وتقول لنا الملفات الديبلوماسية إنّ الحرب على "فلسطينيي التسوية" تأكدت بإجهاض مسيرة "أوسلو" التي كانت تنصّ على حلّ نهائي، ودولة قابلة للحياة (خلال خمس سنوات). فكان أن انتهت السنوات الخمس قبل ربع قرن كاملة ليس فقط بلا دولة، بل بتكريس واقع على الأرض تنتفي معه أي إمكانية لقيام دولة.
- وتقول لنا التشريعات الإسرائيلية إنّ الحرب على "فلسطينيي الداخل" قائمة بِقَوْنَنَةِ العنصرية بما تمّ من إقرار لقانون "يهودية الدولة".
- وتقول لنا الشواهد إنّ الحرب على "القضية" برمّتها، بدأت بمسيرة التطبيع (المجاني) قفزًا فوق مبادرة الملك عبد الله 2002، وبما بات معلنًا من خطط، وخرائط صهيونية لشرق أوسطٍ جديد. فضلًا عن محاولة القضاء على المؤسّسة الأممية التي تجسّد مسألة اللاجئين "الأونروا"، بما لذلك من تداعيات ودلالات قانونية.
المسألة أبعد بكثير من "حماس"، ومن غزّة، بل ومن المقاومة.
الإسرائيليون ليسوا بحاجة إلى ذريعة ليستكملوا جريمتهم في غزّة وهم يرتكبونها في الضفّة التي تديرها "سلطة أوسلو"
يبقى أنّ على الذين يرون الحلّ في القضاء على "حماس"، أو خروجها من غزّة، تماهيًا مع ما ينادي به المسؤولون الإسرائيليون في تغريداتهم، وبغضّ النظر عن استحالة تنفيذ ذلك عمليًا، أن يتذكّروا أن إسرائيل عندما اجتاحت لبنان (1982)، وطالب البعض بخروج المقاومة حقنًا لدماء المدنيين، خرج ياسر عرفات ومقاتلوه إلى تونس، إلّا أنّ ذلك لم يمنع الإسرائيليين من ارتكاب مذبحة صبرا وشاتيلا الشهيرة.
إسرائيل لا تستهدف "حماس" وحسب، كما يتوهّم أو يمنّي بعضنا نفسه. الإسرائيليون واضحون في أنهم يريدون غزّة خالية من سكّانها. أعلنها ترامب بوضوح وصراحة، وترك للإسرائيليين مهمّة تنفيذ ذلك على الأرض، بتحويلها إلى جحيم يومي يجبر أهلها على المغادرة. هم قالوا ذلك بصراحة ووضوح، فلماذا لا يريد بعضنا أن يصدّق.
الإسرائيليون ليسوا بحاجة إلى ذريعة ليفعلوا (أو بالأحرى يستكملوا) جريمتهم في غزّة، فهم بدأوها قبل ثمانية عقود، وهم يرتكبونها كلّ يوم في الضفّة التي تديرها "سلطة أوسلو" (نظريًا) وليست "حماس".
الإسرائيليون ليسوا بحاجة إلى ذريعةٍ ليفعلوا ما يشاؤون، وليذهب القانون الدولي إلى الجحيم. فهم قصفوا العاصمة السورية دمشق قبل أيام، على الرَّغم من أنّ الجيش السوري، الذي هو طوْر التشكيل، أو حتى زمن بشار الأسد لم يطلق طلقةً واحدةً تجاه إسرائيل، وعلى الرَّغم من حقيقة أنّ الإسرائيليين يحتلّون أرضًا سوريةً (مرتفعات الجولان) منذ 60 عامًا.
مقاومة الاحتلال حقٌ مكفولٌ بموجب كلّ الشرائع السماوية وكلّ القوانين الدولية وليس بحاجة إلى تبرير أو دفاع
الإسرائيليون ليسوا بحاجة إلى ذريعة غير التصريحات الواضحة/الفاضحة لمسؤوليهم أنّ "حدود القدس تنتهي في دمشق".
وبعد،
فللمتربّصين، وهم كثر نقول: إنّ هذا المقال ليس دفاعًا عن "حماس"، فبعد كل ما رأينا من تضحيات هي في غنى عن مثل هذا الدفاع، ولكنه دفاع عن الحقّ المشروع في مقاومة الاحتلال، وهو حقٌ مكفولٌ بموجب كلّ الشرائع السماوية وكلّ القوانين الدولية. وكنّا نحسب أنّه ليس بحاجة إلى تبرير أو دفاع.
لك أن تتخذ حيال "حماس"؛ التنظيم أو الإيديولوجية، ما تشاء من مواقف، كما هو الحال مع أيّ فكرة أو فصيل سياسي، ولكن أن يدفعك هذا لإدانة "المقاومة"، أو للكذب على نفسِك أو علينا بادّعاء أنّ هناك سبيلًا آخر (غير المقاومة) لمواجهة الأطماع الإسرائيلية في المنطقة بأسْرها، بعد أن فشلت كل المحاولات السلميّة بداية من مؤتمر مدريد (1991)، واتفاقات أوسلو (1993)، ومبادرة الملك عبد الله (بيروت 2002) ومرورًا بواي ريفر وشرم الشيخ وغيرهما، فعليك مراجعة التاريخ، إنْ لم تشأ أن تراجعَ نفسك.
(خاص "عروبة 22")