التعليم والسياسات التربوية

التعليم العربي في عصر الذّكاء الاصطناعي!

ظهرت في السنة الماضية، 2024، دراسات وأبحاث عديدة، توصّلت إلى حقائق وتوقّعات تقنيّة بشأن تطورات الذّكاء الاصطناعي في شتّى المجالات الحياتية في المستقبل القريب، مؤكِّدةً أنّها ستقلب حياتنا المجتمعيّة بدرجةٍ كبيرةٍ، لتغدو حياةً أكثرَ ذكاءً تقنيًّا، فائقًا، ومتنوعًا.. الأمر الذي انعكس في الآمال والتطلّعات وأيضًا التوجّسات والمخاوف الموازية، حول ما يمكن أن يحدث من تغيّرات حادّة ذات جدوى عالية، أو ربّما تضرّ بمصالح الناس من وجهٍ آخر، في شتّى الأعمال الصغيرة والكبيرة على السواء، بخاصة الأعمال اليدوية والتقليدية والروتينية والاستعلامية والتحليلية الكمّية والفكرية، في الإدارة والمالية والخدمات والتصنيع، وما إلى ذلك.

التعليم العربي في عصر الذّكاء الاصطناعي!

يظلّ الهاجس الأكبر أكثر ارتباطًا بالبلدان المتأخّرة في صناعة البرمجيّات والتطوير الحوْسبي ومشاريع الذّكاء الاصطناعي، ومنها البلدان العربية شرقًا وغربًا؛ لكوْنها في حقيقة الأمر لا تعتمد على نفسِها بشكلٍ كبيرٍ في شتّى أعمالها وأنشطتها الحاسوبية والشبكية.

تحدّيات على صُعُدٍ متعدّدة تواجهنا، نحن المستقبِلين للمنتجات البرمجيّة المتقدّمة على علّاتها، من مواردها الغربية والشرقية، من دون إحداث فوارق خصوصيّة تتناسب واحتياجاتنا الفعلية وثقافة مجتمعاتنا المحلية، بخاصة أنّ معظم التوقّعات، تشير إلى أنّه مع هذا العام 2025، ستكون تطوّرات الذّكاء الاصطناعي مفاجئةً، وباديةً للعيان، وستدخل في صلب حياتنا اليومية... وها هي الآن ملحوظةً بالفعل... تتغلغل بيننا يومًا بعد يوم!... فماذا أعددنا لها، للاستفادة منها وتعظيم جدواها؟ وكيف يمكننا أن نستعدَّ لحماية أنفسنا من غلوائها، ومحتملات أضرارها، مثل إزاحة الأفراد عن أداء أدوارهم المهنية والاجتماعية بعامة؟!.

ثورة تعليمية من خلال الذّكاء الاصطناعي سينتج عنها تحسين قدرات التعلّم وتنمية الإمكانيات البشرية للفهم والإدراك

على الرَّغم من المجالات الكثيرة التي يقتحمها الذّكاء الاصطناعي باقتدار منقطع النّظير البشري، في السرعة والدقّة، وحجم المعالجة المعلوماتية والاستيعاب المعرفي والذاكرة والاسترجاع، واتخاذ القرار، والإدلاء بالنتائج والخبرات؛ إلّا أن أولوياتنا العربية المجتمعيّة تتركّز في مجالات معيّنة أكثر من غيرها، أحرى بنا الانتباه إليها جيدًا، ومنها: التعليم، والصحة، والبحث العلمي، ومشروعات الأعمال المختلفة. فضلًا عن مجالات أخرى لها أهميتها البالغة، مثل المجالات الثقافية والإعلامية والأمنية والعسكرية...

لو بدأنا النّظر في أيّ مجال من المجالات المذكورة، علينا أن نتساءل: ماذا يُقدّم لنا فيه الذكاءُ الاصطناعيُّ حاليًّا؟ وماذا نتوقّع منه؟ وماذا يجب علينا فعلُه تجاهه؟

لننظر مثلًا، في مجال التعليم على المستوى الإنساني العالمي... بدءًا من هذا العام، أصبحنا نشهد ثورةً تعليميةً حقيقيةً ملموسةً في نقل المعرفة من خلال تكنولوجيا الذّكاء الاصطناعي الافتراضيّة، التي لا شكّ سينتج عنها مزيد من تحسين قدرات التعلّم، وتنمية الإمكانيات البشرية للفهم والإدراك ورفع المهارات والكفاءات. وسيصبح فهمُنا أعمقَ للمناهج والمقرّرات الدراسية، إلى جانب التطوير المستمرّ للتقنيات المستخدمة في التعليم والتدريب المُتخصّص.

ستزداد خيارات التنوّع في أدوات التعليم والتعلّم وسندخل مرحلة ما بعد الفصل الدراسي التقليدي

ستُفتح قنوات أكثر رحابةً للتواصل والتعاون عبر الثقافات واللغات المختلفة. وسيعمل الذّكاء الاصطناعي على تخصيص المناهج والمقرّرات الدراسية من خلال عملية تصميم بيئة التعلّم والمُحتوى والأساليب المناسبة للاحتياجات والتفضيلات الفرديّة للطلاب، وإتاحة سُبُل تقييم مستويات التعلّم والمعرفة بدقّة، ومعايرة مستويات المهارة والكفاءة. إلى جانب تعزيز الوصول إلى مستودعات المعلومات الشبكيّة المتنوّعة، والنفاذ إلى شتّى المصادر والمراجع الإلكترونية بسرعاتٍ هائلة، والتفاعل معها آنيًّا، مع إتاحة تقنيّات خاصة لتقديم التعليقات الفورية من قبل المعلّمين والمدرّبين عن بُعد، وفق تكنولوجيات غامرة، وأكثرَ قبولًا وجاذبيّة.

في عصر الذّكاء الاصطناعي الذي دخلناه حاليًا، سنعيش الواقع الافتراضي والمعزّز بشكلٍ أكثر واقعية، وستزداد خيارات التنوّع في أدوات التعليم والتعلّم عبر تكنولوجيا الألعاب الذّكية والفنّ الافتراضي ثلاثيّ الأبعاد. وسندخل بشكلٍ موسَّعٍ مرحلة ما بعد الفصل الدراسي التقليدي، الفصل الافتراضي المزوَّد بمزايا التعلّم الفائقة، وسيكون هناك معلِّمو الذكاء الاصطناعي، بشرًا وآلاتٍ، بقدرات متميّزة تعتمد على التقدّم الهائل في معالجة اللغة البشرية، والتعرّف إلى الصوت؛ فضلًا عن القدرة على المشاركة التفاعلية المتقدّمة في المحادثة والتمثّل الافتراضي...

إذن، ماذا يجب علينا فعلُه على المستوى العربي الإقليمي والمحلّي تجاه كلّ هذه التطوّرات التي أخذ الذّكاءُ الاصطناعيُّ يهلُّ بها علينا شيئًا فشيئًا عبر الفضاء الإلكتروني الكوْني الأوسع... الفضاء الأكبر، الذي غمر فضاءاتنا المجتمعيّة المتنوّعة، وحوّلنا إلى كائناتٍ لا تتواصل اجتماعيًّا بقدراتٍ فائقةٍ إلّا بواسطته، ومن خلاله؟!

ضرورة تعزيز البيئات الحاضنة للطفولة تقنيًا وتبنّي تقنيات التعليم الإبداعي المحفِّزة للعقل

إنّ المسارات المُتاحة والمطلوبة بقوّة الآن في هذا السّياق، هي مسارات التوجّه نحو التنمية الرّقمية في مؤسسات التعليم والتعلّم الإلكتروني وتقنيات التعلّم عن بُعد، وتعزيز نشر المعرفة الافتراضية في شتّى حقول العلوم والمعارف. مع ضرورة أن يشملَ ذلك تشجيع الإنتاج العلمي الرّقمي المعتمِد على الذّات، والتحوّل نحو استخدام أنظمة التعليم من دون ورق، والتوثيق الإلكتروني المُتكامل، واستخدام تكنولوجيا البيانات في مختلف الأعمال والمؤسّسات التعليمية والتدريبية. بالإضافة إلى ضرورة توفير المصادر والمراجع الإلكترونية المنظَّمة والمعتمَدة دوليًّا في مختلف المجالات. ويتطلّب الأمر تبنّي استخدام تقنيات الروبوت في التعليم والتدريب، خصوصًا في مجالات التعليم الطبّي والهندسي.

ومن المبادئ المهمّة بالخصوص، ضرورة الاهتمام بتربية الطفل رقميًّا، وتعزيز البيئات الحاضنة للطفولة تقنيًا، بما يشمل إعداد الكوادر التعليمية المناسبة لحمل رسالة التعليم الإلكتروني، واستخدام الذّكاء الاصطناعي باقتدار وكفاءة مناسِبة؛ بحيث تكون السياسات التعليمية ومخطّطاتها تتبنّى تقنيات التعليم الإبداعي المحفِّزة للعقل، وإنماء القدرات الشخصيّة، وإبراز الفروق الفردية للمُبدعين في هذا الشأن حتّى يكون لهم دورهم المهمّ والمسؤول عن حمل راية التقدّم والازدهار العربي المنشود ضمن التطوّر الحضاري الإنساني.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن