يبدو أنّ ذلك الوصف السّلبي ما زال يحتفظ براهنيّته إلى اليوم في ظلّ الهزّات المتتالية التي تعصف بالمنطقة العربية. فقد أفضى تسارع الأحداث وتلاحقها بصورةٍ دراماتيكيةٍ إلى طرح عديد الأسئلة من أهمّها: أين دور الشعوب ممّا جرى ويجري طيلة العقود الأخيرة في ظرفيّة تحوّل فيها العالم إلى قريةٍ صغيرةٍ تُرصد فيها جميع المواقف والتوجّهات بدقّة متناهية؟.
المنطقة العربية ذات موقع استراتيجي فظلّت محلّ أطماع المستبدّين المحلّيين والاستعمار القديم والجديد
يَشي ذلك السؤال المحوري بوجود عطالة ذهنية وتاريخية جعلت الشعوب العربية تعيش ما يشبه "الموت السريري" أو الغيبوبة الحضارية بحكم عجْزها عن صنع التاريخ وتوجيهه بما يناسب رهاناتها المصيرية. ولعلّ هذا المُعطى يستمدّ منه الوصف المذكور سابقًا معقوليّته ووجاهته. إذ يكفي مراجعة سلسلة الأحداث الكبرى التي شهدها العالم العربي منذ ستينيّات القرن العشرين لملاحظة الدوامة الرهيبة التي يدور فيها العرب المعاصرون ضمن ما وصفه أحد المؤرّخين بـ"التقدّم القهقرى" أو السير بخطى حثيثة نحو هاوية سحيقة. فمن نكبة يونيو/حزيران 1967 واجتياح بيروت 1982 وسقوط بغداد 2003 إلى المنعرجات المزلزلة التي شهدتها دولٌ عربية ضمن الحراك السياسي والاجتماعي بعد يناير/كانون الثاني 2011، ترتسم مؤشّرات كثيرة إلى انهيار شامل يوحي بانتهاء صلوحية الكيانات المنبثقة عن اتفاقية "سايكس – بيكو" 1916، وتشكّل خريطةً جديدةً تُعدّ "إسرائيل الكبرى" نقطة ارتكازها.
تتلخّص المفارقة الكبرى التي تدّل دلالةً قاطعةً على "تذرّر" الأفراد وتهلهل المجتمعات العربية في أنّه عندما بدا أمل تمزّق الصورة النّمطية عن العرب خلال حراك 2011 السياسي والاجتماعي، حين لهجت حناجر الجماهير مطالبةً بالحرّية والديموقراطية والعدالة الاجتماعية، سرعان ما تمّ تحويل وجهة ذلك الحراك إلى آليةٍ من آليات إضعاف الدولة الوطنية وتفتيتها بدل تطويرها. فتصدّعت البنى الاجتماعية وبرزت الطائفية والمذهبية الدينية والإيديولوجيا الهويّاتية. وهو ما عزّز اليقين في وجود خللٍ بنيوي خطير يتّصل بطبيعة التركيبة الذهنية والنفسية للأفراد التي تجعلهم أدوات طيّعة بأيدي المتلاعبين بالعقول.
الفرد العربي لا يقلّ في حقيقته قيمةً عن غيره إذا توفّرت جملة من الشروط أهمها بناء الإنسان المتمتّع بحقوقه
تُثبت التجربة التاريخية لمختلف الحضارات أنّ جميع المجتمعات البشرية مُعرّضة لمراحل الضعف والنّكسات والارتدادات إذا توفّرت جملة من العوامل المتقاطعة. ولمّا كانت المنطقة العربية ذات موقع استراتيجي، فإنّها ظلّت على مرّ التاريخ محلّ أطماع سواء من المستبدّين المحلّيين الذين عملوا على ترسيخ ثقافة الطاعة والخنوع للاستمرار أطول ما يمكن في سدّة الحكم، أو من الاستعمار القديم والجديد عبر وكلائه الحصريين. ولا يمكن في ظلّ ذلك المناخ أن تتطوّر ثقافة التساؤل أو التفكير النقدي لأنّ ذلك ما يحيّر الأسئلة والإشكاليات الحقيقية. وهو ما يفسّر تكلّس الفكر وانغلاق الثقافة، فَفَتَرَ الاجتهاد وعمّ الرّكود والتقليد. ولئن وفّرت العوْلمة فرص الاستفادة من الثورة المعلوماتية والاتّصالية، فإنّه على النّقيض من ذلك تمّ تعميم الجهل المركّب أو الجهل الجديد على نطاقٍ واسعٍ عبْر وسائط التواصل الاجتماعي بحكم افتقار روّاد تلك الوسائط ومستخدميها لملَكاتٍ نقدية تُمكّنهم من التعامل المنهجي السليم مع مختلف المستجدّات المتسارعة.
بيْد أنّ الفرد العربي لا يقلّ في حقيقته قيمةً عن غيره إذا توفّرت جملة من الشروط المساعِدة على تنمية فردانيّته مثلما يظهر ذلك جلّيًا في النجاحات المدوّية التي يحقّقها بعض المهاجرين العرب في بلدان إقامتهم بعد أن تمتّعوا بحقوق المواطَنة الكاملة. ولعلّ من أهمّ تلك الشروط وأوكدها بناء الإنسان الفرد المتمتّع بحقوقه الكاملة بالتساوي مع غيره من المواطنين ضمن عقدٍ اجتماعيّ يُنظّم علاقة الحاكِم بالمحكومين على نحوٍ تعاقدي ومصارحة الذّات.
إعادة تحديد القدرات الذاتية وتوجيهها بحسب ما تقتضيه شروط اللحظة يساعد على ترتيب الأولويات وتجنّب المكابرات
فعرب اليوم ليسوا هم عرب الأمس مثلما صرّح بذلك السادات قبل خمسين عامًا سواء في مستوى مكانتهم ضمن موازين القوى العالمية، أو في طبيعة الظرفيّة الدوليّة المعاكسة لهم تمامًا وغير العابئة بحقوقهم المشروعة في استعادة أراضيهم المحتلة وحقّهم في الكرامة والمغايرة والاختلاف. كما أنّ إعادة تحديد القدرات الذاتية وتوجيهها بحسب ما تقتضيه شروط اللحظة التاريخية ورهاناتها الحقيقية بناءً على استراتيجيات ذات سيناريوات متنوّعة قد يساعد على ترتيب الأولويات وتجنّب المكابرات الزائفة.
(خاص "عروبة 22")