اتجهت إسرائيل إلى تكريس العمل العسكري في غزة، والاتجاه إلى تبني مقاربة الحل الانفرادي في القطاع، والعمل على فرض استراتيجية الأمر الواقع، وتوسيع منطقة الوجود العسكري، والانتقال التدريجي من خارج مدن التماس والآهلة بالسكان إلى الداخل، ومن ثم غلق الباب أمام أي وجود فلسطيني داخل رفح ومدينة غزة.
تمهيداً لاحتلال مناطق أخرى داخل القطاع، وفق خريطة الأهداف التي يعمل عليها الجيش الإسرائيلي في الوقت الراهن، والقائمة على استراتيجية قضم أكبر مساحة من القطاع، وإعادة التمركز والانتشار والانتقال التدريجي لإقامة مناطق معقمة ومطهرة لا وجود فيها للسكان الفلسطينيين بهدف إنهاء أي وجود لعناصر حركة "حماس"، سواء من القطاعات الخدمية أو الأمنية أو التي تعمل وراء الستار، ما يؤكد استراتيجية إسرائيل الجديدة في القطاع، وبعد استئناف المواجهات مجدداً الانتقال إلى ضرب البنية الأساسية بصورة كاملة، وعدم إعطاء فرصة للمراكز الخدمية لتؤدي دورها ولو المحدود.
إضافة إلى ممارسة أكبر قدر من الضغوط على السكان الفلسطينيين للثورة على وجود حركة "حماس" في القطاع، ورفضها تقديم تنازلات بشأن الإفراج عن الأسرى والمحتجزين، والعمل على تفكيك البنية العسكرية لـ"حماس"، وعدم الاستمرار في المشهد الراهن بعد استئناف "حماس" إطلاق الصواريخ مجدداً، كذلك بالإسراع بالضغط على السكان الفلسطينيين لإتمام الهجرة الطوعية، والإسراع بإتمام الرحلات اليومية إلى الخارج عبر ميناء أشدود، والتي تشير في مجملها إلى جدية الطرح الإسرائيلي الراهن في قطاع غزة، وإتمام مخطط التهجير بصورة عاجلة.
الأمر الذي سيؤثر على مسار المفاوضات التي يطالب بها الوسطاء، وقد يؤدي إلى تجمد مسار التفاوض رسمياً، والاستمرار في حالة المواجهة والحرب في قطاع غزة، والتي قد تؤدي إلى استمرار عزل القطاع، وقطع الخدمات بصورة كاملة بهدف نقل رسالة للجمهور الفلسطيني بأن القطاع كوحدة كاملة لم يعد موجوداً، وأن على الجميع مغادرة القطاع، وتركه لبدء إعماره، خاصة بعد أن أعلن رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، خطة إسرائيلية جديدة تستهدف تقطيع أوصال قطاع غزة، معلناً إنشاء محور "موراج"، لفصل خان يونس عن رفح، والذي ينتمي في مخططه إلى الأصابع الخمسة التي أسسها شارون عند اجتياح قطاع غزة.
وهي على الترتيب من الجنوب للشمال: فيلاديلفيا الحد الجنوبي للقطاع مع مصر، وموراج بين رفح وخان يونس، وكيسوفيم بين خان يونس والوسطى، ونتساريم بين الوسطى وغزة، ومفلاسيم بين غزة والشمال. ومن المتوقع أن يمتد مسار موراج بالتوازي مع مسار فيلادلفيا، على بُعد بضعة كيلومترات شمال الممر البري.ويعمل الجيش الإسرائيلي حالياً على طول طريق فيلادلفيا، ويسيطر أيضاً على حوالي 70% من منطقة نتساريم، وهذا هو الطريق نفسه الذي كان بالفعل تحت سيطرة القوات الإسرائيلية جزئياً، وحتى الآن، تم ترك معبر بري مفتوح لمرور سكان غزة من الشمال إلى وسط القطاع.
ومن الواضح أن الهدف الأول من هذا الممر هو تقطيع أوصال قطاع غزة بين شماله، ووسطه، وجنوبه، وإحكام السيطرة العسكرية عليه، حيث وسع الجيش الإسرائيلي سيطرته على شمال قطاع غزة وبيت لاهيا وبيت حانون ومناطق أخرى، وزاد من المنطقة العازلة في جميع أنحاء القطاع. وهذا يعني أن الجيش الإسرائيلي يحتل الآن حوالي 25% من أراضي قطاع غزة.
ولعل ما يجري في رفح الآن من توغل بري عبر الفرقة 36 مدرعات، وتكثيف الطيران الإسرائيلي لجرائم الإبادة والتطهير العرقي، يدل على أن القوات الإسرائيلية تعزز إنشاء المناطق العازلة، لتحويل ما سيتبقى من غزة إلى معتقل كبير، تمهيداً لنقل الفلسطينيين قسراً إلى خارج القطاع، حيث من المتوقع حال إنهاء محور موراج، سيحتفظ الجيش بنحو 30% من أراضي قطاع غزة، وهذه هي أكبر مساحة تتم السيطرة عليها منذ بداية الحرب، حيث تعمل حالياً، ثلاث فرق عسكرية إسرائيلية في غزة، وهي: فرقة غزة، والفرقة 252، والفرقة 36.
يمكن التأكيد أن إسرائيل - إنْ عادت للتفاوض مجدداً وفق أية مقاربة مصرية أو أميركية -سيكون تحت النيران بالفعل في ظل ما يجري من إجراءات إسرائيلية سريعة تتعلق بالعمل على مسارات متعددة، وأهمها تكثيف العمل العسكري بصورة لافتة ومباشرة ما قد يقف أمام أي طرح تفاوضي، أياً كان الطرف الذي سيقدمه، خاصة وأن ما يطرح مجرد إعادة لتدوير الأفكار، وعدم وجود أي طرح جديد خارج السياق الراهن ووفق رؤية كل طرف.
ومن الخطأ الرهان على وجود تباينات داخل المستوى السياسي أو العسكري الإسرائيلي بشأن ما يجري في قطاع غزة، ما قد يؤثر على توقف ما يجري تحت ضغوط مستجدة، بل يوجد توافق كامل بين المستويين، وأن ما يجري مجرد تباينات مهنية في مستوى العمل العسكري ليس أكثر، وفي ظل تصاعد النزعة العسكرية المتصاعدة في إسرائيل، والتي تحكمها ضوابط عدة ومحددات راسخة لن تتغير على الأرض في ظل تكريس العمل العسكري الممنهج، والعمل وفق تصور أحادي الجانب، ومع دعم أميركي كبير لما يجري، وهو ما يؤكد أن الوسيط الأميركي بات شريكاً فعلياً لإسرائيل، وأن أية ترتيبات أمنية أو استراتيجية ستجرى في غزة وخارجها مرتبطة بموقف أميركي- إسرائيلي مشترك، وهو ما برز في زيارة نتنياهو مؤخراً لواشنطن.
(الاتحاد الإماراتية)