فتحت إقالة مجلس النواب الليبي لرئيس الحكومة المكلفة شرقي البلاد، فتحي باشاغا، وتكليف المجلس وزير المالية، أسامة حماد، بمهام رئيس الوزراء وإدارة اعمال الحكومة، مع التصويت على إيقاف رئيسها وإحالته إلى التحقيق، الباب أمام أسئلة ليبية كبرى حول الأسباب وراء هذا الإجراء وماهية ظروفه، وسط فترة دقيقة تمر فيها ليبيا المنقسمة على نفسها إلى حكومتين، إحداهما ترأسها باشاغا في شرقي البلاد وأخرى يترأسها عبد الحميد دبيبة في غربها.
الإقالة جاءت بعد توجيه باشاغا نفسه مكتوبًا رسميًا يُعلم فيه البرلمان منح نائبه علي القطراني جميع الصلاحيات لرئاسة الحكومة بدلاً منه، مع الابقاء على التشكيلة الحكومية كما هي.
وهذا يعني، أن باشاغا كان على علم بنيّة البرلمان ضده، بعد حملات كثيرة شُنت عليه كان عنوانها عدم توحيد البلاد تحت قيادته بعد وعوده بدخول الغرب وتسلم الحكومة من عاصمة ليبيا طرابلس، إذ رفض رئيس حكومة الوحدة عبدالحميد الدبيبة تسليمها إلا بعد إجراء الانتخابات وقاوم ذلك بشدة.
إقالة باشاغا اتُّخذ في غياب رئيس البرلمان وأضعف رئيس الحكومة المُقال
لكن، هل هذا هو السبب الوحيد والأهم لهذا الإجراء؟ أم أنّ أسبابًا أخرى كانت وراء سقوط باشاغا؟ والأهم ما مدى جديّة هذا القرار؟
التساؤل الأخير مردّه الموقف المتراجع في الظاهر الذي عبّر عنه مجلس النواب، بإعلانه أنه لم يحجب الثقة عن باشاغا، ولم تتم إقالته، بل إيقافه عن مباشرة مهامه إلى حين الانتهاء من التحقيق معه، من قبل لجنة برلمانية حول اتهامات تتصل بإهدار المال العام، وقد يعود باشاغا لمباشرة مهامه في حال عدم ثبوت مسؤوليته.
دخول طرابلس بالغ الأهمية للشرق كون الغرب هو مصدر الثروات وفيه يوجد البنك المركزي
على أن إقالة باشاغا أو إيقافه عن العمل، والذي اتُخذ في غياب رئيس البرلمان عقيلة صالح، أضعف رئيس الحكومة المُقال الذي بات على خلاف مع الجميع، كما أفادت معلومات مواكبة للحدث منصّة "عروبة 22". ويُذكِّر المتابعون بتعهدات أطلقها باشاغا مع نيل حكومته الثقة في شهر آذار من العام الماضي، بدخوله طرابلس خلال مدة اقصاها 14 شهرًا، ونال على أساسها ثقة البرلمان.
ودخول طرابلس بالغ الأهمية للشرق كون الغرب هو مصدر الثروات وفيه يوجد البنك المركزي، وقد حصلت حكومة الغرب على الشرعية الدولية جراء ذلك. ويلفت المتابعون النظر الى ان اختيار باشاغا أصلًا لرئاسة الحكومة يأتي نتيجة تحدّره من الغرب نفسه، من مدينة مصراتة تحديدًا، وتواجده في الشرق الليبي جاء بهذا الغرض أي السيطرة على كامل ليبيا انطلاقا من العاصمة.
أما بنظر أخصامه، فهو مجرد أمير حرب وميليشيوي سابق وصل الى الحكم وزيرًا في حكومة الوفاق الوطني، ثم رئيساً للحكومة عبر المحاصصة، وأراد الآخرون الاستفادة من ثقله العسكري وقدرته على ضبط الأمور عسكريًا، ويعتبرون أنّ حكومته تتحمل مسؤولية عدم قدرتها على انتزاع اعتراف دولي بشرعيتها، رغم منحها الثقة من مجلس النواب، فلم يكن لها أي حراك ملموس على المستوى السياسي وحتى الخدماتي والاجتماعي، ناهيك عن المزاجية التي اتسمت بها عملية صرف المليارات (ومنها الكثير رُصد للغرب الليبي) من دون تحديد مصادر تلك الأموال.
أما المتعاطفون معه، فيتحدثون عن عدم استجابته لابتزاز النواب الفاسدين بغية رصد الأموال لهم، وفي الأصل لم تكن حكومته تقوم على تمويلات مالية كبرى على خلفية رفض مصرف ليبيا المركزي الذي يتموقع في طرابلس، منحها موازنة طلبتها تقدر بـ 89 مليار دينار، أي نحو 18 مليار دولار.. وهو لم يشأ الخضوع لابتزاز معارضيه النواب ومعهم بلديات من الشرق والجنوب وخاصة الجنوب الغربي، فكان ان انقلبوا عليه وهو غير الحاصل على موازنة في الأصل.
يحتفظ باشاغا بعلاقات متنوعة، فهو يتحالف مع قائد القوات العسكرية الشهير في الشرق خليفة حفتر (المبتعد قليلاً عن الأضواء بسبب مرضه)، ومع مصر بقيادة الرئيس عبد الفتاح السياسي، علمًا أنّ القاهرة تملك نفوذًا ملحوظًا في المنطقة الشرقية، كما يحتفظ باشاغا بعلاقات قوية مع الإمارات والسعودية.
دوليًا، يحتفظ باشاغا بعلاقات جيدة مع فرنسا وإيطاليا وإنكلترا بدرجات متفاوتة، ومع روسيا والولايات المتحدة الأميركية التي تمارس النفوذ القوي لدى حكومتي الشرق والغرب، وبذلك يمارس أدوارًا تقريبية عبر تقاطعاته تلك.
وبعد علاقة حسنة مع تركيا، اذ كان أحد أسباب توقيع اتفاقية الحدود البحرية والاتفاقية الأمنية مع تركيا خلال تسلمه وزارة الداخلية في حكومة الوفاق الوطني منذ أربع سنوات، بات اليوم يطالب تحت شعار السيادة بسحب القوات التركية من شرقي ليبيا، وشرع في تحالفات مع جماعات تناصب تركيا العداء تشمل قيادة الجيش، ونوابًا في البرلمان.
يتخوف المراقبون من فوضى مؤسساتية مع بروز محتمل لحكومتين في الشرق
هذه التقاطعات الداخلية والعربية والدولية دفعت بالرجل الى الترشح للانتخابات الرئاسية قبل أن يستقر على رئاسة "الحكومة الموازية" كما تسمى في البلاد في مواجهة "حكومة الوحدة" في الغرب. لكنه فشل في كسب اعتراف العالم وزاد من وطأة الأمر انه فشل في إسقاط حكومة الغرب، ذات الحلف التركي والإخواني ("الإخوان المسلمون")، عسكريًا في آذار وأيار من العام الماضي. وبعد ضغوط خارجية ارتضى أن يتنازل عن توحيد البلاد تحت قيادته لكنه يدفع الآن ثمن خياره هذا.
واليوم بعد قرار البرلمان، يتخوف المراقبون من نشوء فوضى مؤسساتية تعزز حالة اللاإستقرار مع بروز محتمل لحكومتين في الشرق نفسه، إحداهما يعيّنها البرلمان وأخرى كاستمرارية لباشاغا عيّن هو رئيسها.
هذه التطورات تأتي في ظل رغبة أممية بانتخابات رئاسية وبرلمانية خلال هذا العام، لكن يبدو أن الأمر أصبح مستبعدًا مع دخول ليبيا مرحلة جديدة من الانقسام السياسي.
وبالنسبة الى المستقبل الأبعد، يرى مراقبون أن ما يحصل قد يمهّد لتشكيل حكومة مصغرة تتولى مهمة إجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية في البلاد عبر إبعاد الدبيبة وباشاغا معاً عن المشهد، لكن دون ذلك صعوبات كبيرة، في ظلّ تشدد الدبيبة في محادثات الوحدة. ولعل دعوته أخيرًا إلى سن قوانين انتخابية غير مفصّلة على قياس أحد، تمثل مؤشرًا على عدم رغبته بتوحيد الحكومتين، مع إبقاء انفتاحه على الشرق الليبي.
علماً بأن حكومة الدبيبة كان مجلس النواب قد أسقطها ولكن العالم لم يعترف بهذه الخطوة كون الدبيبة جاء بموجب اتفاق سياسي، وهو اتفاق جنيف برعاية بعثة الأمم المتحدة. وبذلك باتت حكومته، المالكة للثروات، بمثابة سلطة الأمر الواقع في مواجهة حكومة باشاغا التي وفّر لها البرلمان الثقة بدلًا عن الدبيبة، قبل خلعها منذ أيام.
يبقى أنّ المراقبين للشأن الليبي لا يستبعدون أن يحصل سيناريو آخر ويقضي بعودة البرلمان عن قراره ليعود بالتالي باشاغا إلى ممارسة دوره بعد ضغوط خارجية وداخلية أبرزها موقف المجلس الأعلى للدولة، أكبر هيئة استشارية في البلاد، الذي سبق أن رفض قرار البرلمان وهاجمه بشدة.
(خاص "عروبة 22")