ماذا تعني العودة الأميركية المفاجئة إلى ليبيا؟بقاء الفوضى مقابل النفط والتطبيع!

بينما تواصل الأمم المتحدة إبقاء الأزمة الليبية تحت إدارتها، بعيدًا عن الحسم النهائي، سجّلت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب حضورًا مُفاجئًا على الساحة في ليبيا، الغارقة في أتون الفوضى، سعيًا لتعزيز النفوذ واستغلال النفط، تزامنًا مع استفادة عبد الحميد الدبيبة رئيس حكومة الوحدة من صراع السلطة، بعرض خدماته لاستضافة المهاجرين غير المرغوبين أميركيًّا، وتطبيع العلاقات مع إسرائيل.

ماذا تعني العودة الأميركية المفاجئة إلى ليبيا؟
بقاء الفوضى مقابل النفط والتطبيع!

عبر زيارةٍ دامت 3 أيام، تنقّل خلالها ما بين طرابلس في الغرب وبنغازي في الشرق، أجرى مسعد بولس، كبير مستشاري ترامب للشؤون الأفريقية، محادثاتٍ مع كل الأطراف الليبيّة الفاعلة.

ومع أنّ بولس أكّد أنّ واشنطن ترى أنّ ليبيا لديها إمكانات هائلة، وتريد توسيع العلاقة لخدمة مصالح مستقبليّة مشتركة، مع التركيز على "دعم الحلول الديبلوماسية وتعزيز الاستقرار في ليبيا"، فقد أبدى في المقابل حماسةً لافتةً لتوقيع شركات نفط أميركية اتفاقيّات بقيمة 235 مليون دولار لدعم تحديث مؤسّسة النفط الليبية.

النّفط أولوية أميركية

وعلى الرَّغم من رمزيّة الزيارة، في تأكيد الوجود الأميركي المباشر، فقد أعادت أيضًا التأكيد على أنّ ليبيا لم تخرج يومًا من العقل الاستراتيجي الأميركي، ذلك أنّه على الرَّغم من الفوضى، والانقسامات، والشلل السياسي، فلا تزال ليبيا مهمةً، باعتبارها دولةً نفطيةً غنيّةً، وبوابة عبورٍ للهجرة غير الشرعية، وركيزةً في أمن شمال أفريقيا والبحر الأبيض المتوسط.

لذا، فقد حرصت كلّ الإدارات، منذ الثمانينيّات، على التعامل مع ليبيا كدولةٍ ذات أهميةٍ استراتيجية، لا تُترك للفراغ.

شواطئ طرابلس في "نشيد المارينز"

ما لا يعرفه الكثيرون، أنّ أميركا تتحرّك في ليبيا أيضًا بعقدة التاريخ والجغرافيا، بعدما جرت أول معركة عسكريّة للولايات المتحدة خارج أراضيها، في مدينة "درنة" في الشرق الليبي عام 1805، حين رفضت دفع الجزية لحاكم طرابلس.

ويُلخّص البيت الأول من نشيد مشاة البحرية الأميركية (المارينز)، الدلالات التاريخيّة العميقة، التي تتعلّق ببداية القوة العسكرية الأميركية وتاريخ تدخّلاتها الخارجية.

"من قاعات مونتيزوما إلى شواطئ طرابلس، نخوض المعارك لحماية أميركا".. هكذا يتغنّى عناصر البحرية الأميركية يوميًّا، في إشارةٍ إلى الحرب البربريّة الأولى (1801–1805)، عندما أرسل الرئيس توماس جيفرسون قوات المارينز لمحاربة قراصنة طرابلس، ووقعت معركة درنة الشهيرة وسجَلت أول عملية عسكرية خارج الحدود الأميركية.

بموجب هذه العبارة، التي لا تزال تتردّد في كلّ ثكنة عسكرية أميركية حتى اليوم، وترمز إلى التأسيس الفعلي للقوة البحرية الأميركية، فقد أصبحت "طرابلس" الليبيّة جزءًا من الهوية العسكرية الأميركية.

رهانات الدبيبة

بطبيعة الحال، استغل الدبيبة النّهم الأميركي للحصول على صفقات رابحة مجانيّة، بعرضٍ استراتيجي واقتصادي ضخم بقيمة 70 مليار دولار للاستثمارات الأميركية في قطاعات الطاقة، والمعادن، والبُنى التحتيّة، والصحة، والاتصالات، لتعزيز دخول الشركات الأميركية إلى السوق الليبيّة.

بدا أنّ الدبيبة يُراهن على ترويض الإدارة الأميركية الحاليّة بسلّة صفقات، سواء كانت ثنائية بين طرابلس وواشنطن أو مع شركاتٍ قريبةٍ من ترامب.

ومع أنّ الزيارة الأميركية مجرّد خطوة لتقييم موازين القوى، فقد سعى الدبيبة لتصويرها كدعمٍ لحكومته، بعدما وظّف جماعات ضغط أميركية لهذا الغرض.

وفقًا لتقديرات الكثير من المحلّلين، فقد أجاد الدبيبة استغلال وتوظيف الانقسام الدولي، واستفاد من غياب إرادةٍ دوليةٍ حقيقيّةٍ لحسم الأزمة، ليؤسّس لـ"بقاءٍ أطول" بفضل مراوغة المسارات السياسية، وإرضاء بعض العواصم الإقليمية، وفتح الباب أمام صفقات تطبيع أو استثمارات "للاستهلاك الإعلامي".

التهجير والمهاجرون

مع ذلك، تحدّثت تقارير محلّية عمّا وصفته بنقاط ظِلٍّ عالقةٍ على هامش الزيارة، حول ملفاتٍ حسّاسةٍ أثارت هاجسًا لدى الليبيين، مثل التطبيع وترحيل مهاجرين إلى ليبيا.

وفقًا لمصادر غربيّة في العاصمة طرابلس، فقد جرت خلف الكواليس مناقشات حول نقل وترحيل فلسطينيين إلى ليبيا من غزّة، بعد محاولةٍ فاشلةٍ مرفوضةٍ شعبيًّا للتطبيع مع إسرائيل في عام 2023.

وتحت وطأة العقبات القانونيّة والتحذيرات الحقوقيّة، فقد تخلّت إدارة ترامب مؤقتًا، عن خططها لترحيل مهاجرين إلى ليبيا عبر رحلات جوية، لكنّ الدبيبة، حسبما أبلغ ديبلوماسي غربي "عروبة 22"، أبدى لواشنطن استعداده للتعاون.

وبينما تسعى واشنطن مُجدّدًا، لاستعادة زمام المبادرة، فإنّ القاسم المشترك الأعظم في تعامل كلّ الإدارات الأميركية المُتعاقبة مع ليبيا، هو مزج القوة بالمساومة، من دون تقديم أي تصوّر حقيقيّ لإعادة الإعمار أو إقامة ديموقراطية مستقرّة.

هكذا تحوّلت ليبيا من بلاد نفط أو أطماع، إلى نقطة مواجهةٍ ومنافسةٍ، بيْد أنه بالنسبة إلى واشنطن، فإنّ ليبيا ليست ملفًا طارئًا، بل عقدة تاريخية، يفتح خريطة رموزها: النفط، إسرائيل، المتوسط وشواطئ طرابلس.

والحاصل أنّ ليبيا من هذا المنظور، تعكس سياسةً أميركيةً براغماتيةً، متعدّدة الأدوات، وأحيانًا مزدوجة الأهداف تمامًا، كما هو حال البعثة الأممية التي لا تزال تتحدّث من دون جدوى بعد 14 عامًا على إسقاط نظام العقيد الراحل معمّر القذافي، عن ضرورة رحيل المرتزقة والقوات الأجنبيّة، وتكتفي بمبادراتٍ كلاميةٍ لا طائل منها!!

تبقى ليبيا، التي لم تعرف الاستقرار ولا حكومة موحّدة ولا انتخابات، واستهلكت 9 مبعوثين أمميّين حتّى الآن، مرشحةً للبقاء في منطقة الظِلّ الرمادية، بعيدًا عن الحرب والسلام، تحت استقرارٍ هشٍّ خادعٍ للبصر، قد يتحوّل إلى كارثةٍ دمويةٍ في أي لحظة!.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن