تركزت الأضواء في الآونة الأخيرة على ما يجري في منطقة الشرق الأوسط، لترصد الأحداث الجسيمة المتسارعة في دولها، والحاسمة التأثير في دوائر صياغة قراراتها. والتكهن بما يجري في كواليس الدوائر الحاكمة فيها، لتتحدث في ضوء ذلك عن تغيرات هامة محتملة الحدوث في التوازنات القائمة فيها، فتلك مواد دسمة لوسائل الإعلام التي تعنى بما هو ظاهر يحدث ومضات تهز القارئ.
تُقدم وسائل الإعلام هذه الأحداث للقارئ بطريقة توحي وكأنها تجري بمعزل عما يجري من طروحات على مستوى أوسع، في دوائر الدول التي صنعت معالم النظام العالمي، أو بقليل من التأثير بمخرجاتها الآنية والمستقبلية، فالشرق الأوسط ودوله، ليس لديه سوى البعض من القدرات مما يمكن أن يكون فاعلاً في رسم معالم الخارطة السياسية لمستقبل هذا العالم ونظامه.
بضعة سطور لا بد منها للحديث عن نشأة النظام العالمي، هذا النظام الفائق التعقيد على المستويات كافة سياسية وعسكرية واقتصادية وثقافية، بدأت نشأته الأولى باتفاقية ويستفاليا عام 1648، اتفاقية أنهيت بموجبها حربان مدمرتان في أوروبا، وكان لها أن تضع أساساً للعلاقات بين الدول، تضمن التعهد باحترام سياداتها، وعدم التدخل في شؤونها.
عززت هذه الاتفاقية إلى حد كبير الدراسات الفكرية التي نشرت في ما بعد حول أهمية المبادئ التي جاءت بها حول ضرورة أن تكون هناك أسس لبناء العلاقات بين الدول لضمان أمنها، دراسات حظيت بدعم كبير، وعلى أمد طويل في الأوساط الفكرية والفلسفية الأوروبية، التي تعنى بدراسة الظواهر الهامة التي تقلق السلم المجتمعي، وكان أحد أبرز المتحدثين في ساحاتها، هو الفيلسوف الألماني عمانوئيل كانط "1724- 1804"، من خلال دراساته حول سبل تحقيق سلم دائم في العالم.
وقد توسعت سلطة هذه الاتفاقية مع مبادئها الأساسية، لتصبح في القرن العشرين منظمة عالمية، تحت مسمى عصبة الأمم، بُعيد الحرب العالمية الأولى، ولاحقاً تحت مسمى هيئة الأمم المتحدة، بُعيد الحرب العالمية الثانية، أواسط أربعينيات القرن المنصرم، وحتى يومنا الحاضر، وليصبح ميثاقها بمثابة النظام العالمي.
نشهد اليوم ظواهر تعمل على تقويض هذا النظام، وتتعارض مع المبادئ التي أرسي عليها، خاصة في ما يتعلق باحترام سيادة واستقلال الدول. ما كان غير مطروق بشكل صريح، لم يعد يجري بخفاء، فما عاد ممكناً ستر ما يجري في النظام المالي العالمي، حيث بدأت الأموال تتركز في أيدي أفراد قلائل بشكل مقلق، ما سوف يترتب على ذلك، خاصة حين يدخل هؤلاء الأفراد عالم السياسة، ويصبحوا مؤثرين بهذا القدر أو ذاك على صياغة قرارات هامة.
أصبحت الدعوات لتغيير الخرائط الجغرافية غير مستبعدة من نشرها علناً، كما يحدث الآن، بدعوات إدارة الرئيس الأمريكي ترامب بضم جزيرة غرينلاند إلى الولايات المتحدة الأمريكية، وضم الدولة الكندية كإحدى ولاياتها، وإعادة السيطرة على قناة بنما، وقيام روسيا بضم شبه جزيرة القرم في عام 2014.
وأصدرت إدارة الرئيس الأمريكي ترامب أخيراً، لائحة تعيد النظر بالضرائب الجمركية على البضائع المصدرة إليها، بزيادة الرسوم الجمركية، أحدثت ضجة عالمية، تتجاوز الاحتجاجات التقليدية، إلى اعتبارها بمثابة إشعال حرب تجارية عالمية، لا تقل خطورة عن أية حرب سبق أن شهدناها، وهي في الوقت نفسه تضعف من فرص التفاهمات الدولية.
إلا أن هناك ما هو أخطر من هذا وذاك وذلك، وهو عزوف الدول عن عضوية منظمات، عمل النظام العالمي الحالي على إنشائها، بغية التخفيف من المعاناة، وهي المنظمات الكثيرة العدد التابعة للأمم المتحدة، وعلى رأس هذه الدول هي الولايات المتحدة الأمريكية، التي انسحبت من معظم المنظمات هذه، نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، منظمة الصحة العالمية، ومنظمة الغذاء الدولية.
وكانت قبل ذلك قد أعادت الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ لعام 2015. والانسحابات هذه مضرة للغاية لهذه المنظمات، لأن الولايات المتحدة هي الداعم الأكبر مالياً لها. في ضوء ذلك، لخص رئيس الوزراء البريطاني، كير ستارمر، قلق القادة الأوربيين على مسارات ما يجري في الأوساط الدولية، في مقال نشره في صحيفة "التلغراف" اللندنية، في الخامس من أبريل الجاري، بالقول "إن العالم الذي كنا نعرفه قد انتهى"، مؤكداً أن لا أحد يخرج رابحاً من الحرب التجارية.
(البيان الإماراتية)