وجهات نظر

"المكارثية الترامبية" العابرة للحدود!

لم يكتفِ ترامب بإشعاله حربًا تجاريةً عالمية، إذ أطلق، بالتزامن معها، حملةً "عقابيةً ــ تعقُبية" شعواء ضدّ كلّ من تسوّل له نفسه التصدّي للمشروع الترامبي. ويتفق الدارسون للشأن الأميركي أنّ الحملة "العقابية ــ التعقُبية" الترامبية الراهنة قد فاقت الحملة "المكارثية" التاريخيّة من حيث الضراوة والشراسة من جهة، ومداها ونطاقها ومَن هُم المستهدفون منها من جهة أخرى. ما يدفعنا إلى وصف الترويع الترامبي الراهن بأننا أمام "مكارثية" جديدة على الطريقة "الترامبية".

قبل الحديث عن ملامح "الترامبية المكارثية" وطبيعتها وتطبيقها، ربّما يكون من المُفيد التذكير بماهية "المكارثية" التاريخية في الحياة السياسية والمدنية الأميركية.

تُنسب "المكارثية" للنائب الجمهوري، عضو لجنة العمليات في مجلس الشيوخ الأميركي عن ولاية "ويسكونسن" (من 1947 إلى 1957) جوزيف مكارثي (1908 ـ 1957) الذي قاد حملةً عدائيةً، منذ منتصف الأربعينيّات، ضدّ كل المنتقدين للسياسات السائدة من سياسيين، ومثقفين، وأدباء، وفنانين. وقامت فلسفة الحملة على تنقية الولايات المتحدة الأميركية من أي شخص تراوده أفكار تميل ليس إلى اليسار - فقط - وإنّما إلى الفكر الليبيرالي. وذلك بالدفاع عن أي حقوق مدنية، أو مصالح العمال، أو يدعو إلى توزيع عادل للموارد، أو يدافع عن حقوق الملوّنين. وكانت التهمة الحاضرة هي الاتّهام بالشيوعية. ومن ثمّ لا بدّ من مقاومة هذه الأفكار وعزل هؤلاء مجتمعيًا. انطلاقًا من أنّ الانتصار على الاتحاد السوفياتي وإنهاء مشروعه أو ما وصفه "بالكابوس الأحمر"، يبدأ من الداخل الأميركي. وذلك بمقاومة من يبشّرون به.

مورست "المكارثية" على أوسع نطاق - خلال حقبةٍ من الزمن - من دون تقديم أدلّة. فكانت مرحلة مريعة في تاريخ أميركا الحديث انتهت بإدانته وإدانة مرحلة وُصفت بمرحلة "الرعب الكبير" (Great Fear).

في عهده الثاني استطاع ترامب في أقلّ من ثلاثة شهور من تنصيبه أن يحدثَ نقلة نوعية في "مكارثيته"

استطاعت أميركا الستينيّات من خلال حركات الاحتجاج المدنية اللّونية والإثنية والجيلية والاجتماعية أن تتجاوز الفترة التي سادت فيها المكارثية التاريخية. ومرّت الأيام حتى أطلّ علينا رجل المال والأعمال الجمهوري دونالد ترامب ليُعلن ترشّحه لانتخابات الرئاسة الأميركية التي نُظّمت في 2015.  فمنذ لحظة الإعلان هذه انطلقت "الترامبية المكارثية" عبر ثلاث مراحل كما يلي:

- المرحلة الأولى؛ كانت إبّان الحملة الانتخابية للعهد الأوّل الترامبي والتي درسها أكثر من باحث واستخلصوا كيف اتّسم الخطاب السياسي الترامبي - عبر الخطابات السياسية، والتغريدات - بما يلي: أولًا: التعالي الشديد: العِرقي، والجنسي، والقومي، والجيلي، والسياسي. وثانيًا: التحريض المكشوف ضدّ الوافدين واللاجئين والملوّنين والإثنيات غير البيضاء. وثالثًا: وسم من لا يأتون على هواه بالاشتراكيين الأشرار واليساريين المدمّرين.

- أمّا المرحلة الثانية؛ فكانت العهد الأوّل من رئاسة ترامب بحيث كان أكثر وضوحًا في هجومه على المخالفين له. ونشير هنا إلى ما أطلقنا عليه "جماعات الكراهية البيضاء" التي تشكّلت خلال هذا العهد والتي انتزعت عناصرها الحقّ في ممارسة الإدانة العُنفية المباشرة حيال المختلفين في أروقة الشوارع. وترصد الدراسات ما يقرب من 300 عملية إطلاق نار تمّت خلال هذه الفترة. ونقتطف هنا بعضًا ممّا كان يردّده الرجل وقتئذ. ففي تجمّع للجمهوريين في غرينفيل في كارولاينا الشمالية (الثرية البيضاء البروتستانتية) قال: "هذه الإيديولوجيات اليسارية تريد تدمير دستورنا والقضاء على القيم التي قامت على أساسها أمّتنا الرائعة"... وأضاف: "اليوم نجدّد تصميمنا ونرفض أن تصبح أميركا دولةً اشتراكية". وحول النائبات الشابات الديموقراطيات اللواتي فُزن في انتخابات التجديد النصفي عام 2018، قال: "النائبات الشريرات الاشتراكيات" (...) "إنّهنّ لسْنَ مواطنات أميركيات"، ونصحهن "بالعودة من حيث جئن".

- وأخيرًا المرحلة الثالثة؛ وتُمثّل ذروة "الترامبية المكارثية"؛ إذ تشير المتابعة الدقيقة للأداء الترامبي في العهد الثاني من الزمن الترامبي إلى أنّ الرجل قد استطاع في أقلّ من ثلاثة شهور من تنصيبه أن يحدثَ نقلةً نوعيةً في "مكارثيته" التي دأب على ممارستها. وتتمثّل هذه النقلة النوعية في أمريْن هما:

الأول: مأسَسة "المكارثية" سياسيًا وحكوميّا.

الثاني: عدم الاكتفاء بممارسة "الترامبية المكارثية" على الداخل الأميركي، إذ مدّت نطاق ممارستها ضدّ أي مخالف أو معارض أو محتجّ على ترامب، شخصيًا، وسياساته وقراراته، خارج الولايات المتحدة الأميركية.

مَأْسَسَ ترامب "مكارثيته" وجعلها تُروّع كلّ من يُعارضه في سياساته وقراراته في الداخل والخارج

وتؤكّد الإجراءات "الترامبية المكارثية" التي تمّ اتخاذها في الشهور الثلاثة الأخيرة على تلك النّقلة النّوعية، الخطيرة الأثر في كلّ من الداخل الأميركي وخارجه. فخلال هذه الفترة تمّ ما يلي:

أولًا: تجميد تمويلات مالية للعديد من الجامعات في شتّى الولايات الأميركية وذلك لسببيْن: أحدهما يتعلّق بسياسات أميركية مناقضة للمساواة والشمول. وثانيهما يرتبط بالاحتجاجات المؤيّدة للفلسطينيين.

ثانيًا: تكليف وزير الخارجية الأميركي، رسميًا، بالتحقّق من مواقف المتقدّمين للحصول على تأشيرات - بأنواعها - لدخول الولايات المتحدة الأميركية من الرئيس ترامب وسياساته وقراراته، كذلك الموقف من إسرائيل، وذلك من خلال مراجعة حساباتهم على مواقع التواصل الاجتماعي. ويستند في ذلك إلى ما قرّره تحت عنوان: حماية الأمّة الأميركية.

ثالثًا: الدعوة إلى تنظيم حملة ضدّ من يُعادون السامية ليس فقط في الداخل الأميركي، بل وخارجه.

رابعًا: الاعتماد على ما يمكن أن نُطلق عليه النّخبة الرّأسمالية الرّقمية - إيلون ماسك - لتمكينه من الوصول إلى معلومات وبيانات إدارية ومالية تُيسّر السيطرة على الإدارات الفيدرالية، بدرجةٍ أو بأخرى، كذلك الدولة العميقة، ما يصبّ في المزيد من الهيمنة الترامبية أو ما باتت توصف به المرحلة الترامبية في الأدبيّات: الفاشية الترامبية. ومن ثم التخلّص من كل ما يعوق المشروع الترامبي.

سوف نشهد تباعًا ديناميّة متصاعدة لوضع حدّ للاستباحة الترامبية

هكذا مَأْسَسَ ترامب "مكارثيته" وجعلها لا تترصّد وتُروّع كلّ من يُخالفه الرأي ويُعارضه في سياساته وقراراته في الداخل فقط، بل وفي الخارج أيضًا. إضافةً إلى التلويح بتهمة "معاداة السامية" ضدّ كل من يقف مع الحق الفلسطيني ويُدين إسرائيل. ولكن هل يمكن أن تصمد "الترامبية المكارثية" الراهنة التي تندفع في ضوء نهج ثأري، حسب كتاب صدر مَطلع هذا العام.

درْس التاريخ يقول لنا إنّ المكارثية التاريخية تمّ حصارها. وظنّي أنّ التحرّك الراهن في الأروقة الأميركية: الأكاديمية والثقافية والسياسية والمدنية والفيدرالية لمواجهة مكارثية ترامب قد بدأ يتشكّل لما تُمثّله من خطورة داهمة عابرة للحدود. ويقيني أنّنا سوف نشهد تباعًا ديناميّةً متصاعدةً لوضع حدٍّ للاستباحة الترامبية.

(خاص "عروبة 22")
?

برأيك، ما هو العامل الأكثر تأثيرًا في تردي الواقع العربي؟





الإجابة على السؤال

يتم التصفح الآن