بصمات

جدل الفنّ والمجتمع في مصر!

دار الجدل ولا يزال حول دراما شهر رمضان ومدى انفصالها عن الواقع المصري، كما عن روح الشهر الفضيل، خصوصًا وقد غلبت عليها نماذج إنسانيّة ممعنة في العنف والجريمة، أو مُفرطة في التحرّر والخروج على أعراف المجتمع. الجدل ليس جديدًا، بل هو تكرار لما دار في السنوات الماضية، وإن زاد من وطأته هذا العام مساهمة الرئيس المصري شخصيًّا فيه بما يُشبه التوبيخ، الأمر الذي دفع أحد أبرز المخرجين الذين أسهموا بقوّة في إشاعة هذا النّوع من الدراما إلى إعلان اعتزاله وسفره إلى خارج البلاد بهدفٍ معلنٍ هو المزيد من الدراسة.

جدل الفنّ والمجتمع في مصر!

الحقيقة، في تصوّرنا، أنّ الفنّ المِصري المُعاصر لا يُمثّل خروجًا على حال المجتمع المصري الرّاهن، بقدر ما يُمثّل تجسيدًا له، بكلّ ما جرى له ولا يزال يجري من تحوّلات، معظمها سلبي للأسف، وعلى رأسها الفقدان المُتزايد للّحمة الاجتماعية، والتدهور المفرط في نماذج القُدوة المُلهمة، وفي المُثُل العليا المهيْمنة.

ففي أغلب عقود القرن العشرين، كانت هناك قيم مهيْمنة، لها أبطالها المُلهمين في مجتمعٍ تنمو طبقته الوسطى، وتتعمّق روحه الوطنية باضطراد قبل أن تخبوَ تلك المسيرة أمام الاستقطاب الطبقي المتصاعد، والتديّن السياسي المُتنامي، مع انشطار أنماط التعليم بين ديني وأجنبي تُنافس التعليم العام/الوطني.

المشروع الوطني التحرّري أخذ يتراجع بفعل توقيع معاهدة السلام والاندراج في مسار التّبعية للولايات المتحدة

مثلًا، هيْمنت الروح الوطنية على زمن جمال عبد الناصر، بفعل ازدهار الدور المصري في الإقليم، واشتباك مصر مع العدو الإسرائيلي في معارك متواليةٍ دفاعًا عن فلسطين وسيناء، فكان حلم جلّ الشباب آنذاك أن يكونوا ضبّاطًا في الجيش كي يدافعوا عن الوطن. كما كانت هناك قيم الكفاح العِلمي والترقّي الاجتماعي المرتبطة بالوطنية المصرية في ظلّ روحانيّة يوليو/تموز الاشتراكية، فكان العمل بالسدّ العالي حلمًا كبيرًا مُحَفِّزًا لدراسة الهندسة لدى جيلٍ كاملٍ رأى في المعرفة طريقًا ليس فقط للصعود الفرْدي، بل للخلاص الوطني من أسر الفقر والتخلّف، وفي بناء السدّ نفسِه مثالًا بارزًا ورمزًا شاهقًا لتحدّي الاستعمار الغربي وتحقيق النهوض الوطني.

لا شكّ بالطبع في وجود أحلام أخرى للشباب سواء علمية لمن يريد أن يكون عالمًا فذًّا، أو طبيبًا ناجحًا، أو فكرية لشاب يريد السّير على درب طه حسين بإرادته الفولاذية وموهبته العالية وأيامه التي تثير خيال عشّاق الأدب، أو على درب العقّاد بموسوعيّته الفكرية وحضوره الطاغي وأبطاله المُلهمين للعباقرة والأفذاذ، لكنّ المهم أنّ متوالية الأحلام كلّها كانت نسيجًا عريضًا من الاجتهاد والكفاح والرّغبة العارمة في المعرفة.

التعليم المصري استمرّ في التراجع التدريجي حتّى وقع فيما يشبه الهاوية ناهيك عن تدهور الثّقافة العامة

لقد واكب الفن المصري هذه النماذج المُلهمة، وعبّر عنها بواقعيةٍ أحيانًا، ورمزيةٍ أحيانًا أخرى. كما عبّر عن المعارك التي خاضتها الوطنية المصرية في صورٍ فنيةٍ خلّابةٍ، فملحمة بناء السدّ العالي كانت حاضرةً في إبداع المؤلّفين، وفي أوتار المُلحّنين، وفي شدو كبار المُطربين، في الأغاني والأوبريتات، كما في الأفلام السينمائية والدراما التلفزيونية. ومثلما كانت ملحمة العبور مكتوبةً بمداد من الدمّ، ومعمّدةً بترانيم الخلود، فقد عبّر عنها أغلب مُبدعينا بصدقٍ لانهائيّ لا يزال قادرًا، على الرَّغم من السنين، على انتزاع الدموع من مآقينا، وبثّ الرّعشة في صدورنا، ونحن نصغي لحكاية شعبٍ رفض الهزيمة وأراد الثأر، وكانت الأرض أعزّ عليه من النّفس، فلم يبخل على التراب بالدمّ.

إلّا أنّ المشروع الوطني التحرّري أخذ يتراجع مع نهاية السبعينيّات بفعل توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل والاندراج في مسار التّبعية للولايات المتحدة. كما زاد الانقسام المجتمعي بفعل الخضوع المتزايد للسياسات الرّأسمالية وما تبعها من خصخصةٍ لمصانع وشركات طالما مثّلت شبكة أمانٍ للمصريين. أمّا التعليم المصري فاستمرّ في التراجع التدريجي حتّى وقع فيما يشبه الهاوية مطلع القرن الحالي، إذ لم تعُد المدرسة قائمة، ولم تعُد للمعرفة قيمة سوى البحث عن وظيفةٍ غالبًا لا تأتي. ناهيك عن تدهور الثّقافة العامة بعد أن توقّف الجمهور عن القراءة، وانصرف عن معارك الفكر إلى فضائيّات النّميمة، وبرامج المشاكسة اللفظية.

تقلّصت قيم التمدّن المُستقاة من سيادة القانون والحداثة الاجتماعية وتكلّست الفضائل الأخلاقية

في سياقٍ كهذا، توارَت نماذج القُدوة المُعتبرة، وتحوّلت الأحلام القديمة إلى أوهام جديدةٍ عن الثراء الفاحش والشهرة السريعة، وأخذت الأعمال الدرامية تعكس إمّا تيمة الصراع بين رجال المال والنفوذ من ساكني "الكومباوند"، الذين يستخدمون حرافيش العشوائيات من المُدمنين والبلطجيّة، كحطبٍ لنار تلك الصراعات في مجتمع "الجزر المنعزلة"، أو تيمة الإضحاك السطحي والبلاهة العقلية.

وعلى هذا، فالدراما المصرية المعاصِرة ليست إلّا تجسيدًا لمجتمعها الرّاهن الذي اختفت فيه أنماط العيش الطبيعيّة، المفترض أن تُمارسها الطبقة الوسطى كتيارٍ رئيسيّ، بعد أن تقلّصت قيم التمدّن المُستقاة من سيادة القانون والحداثة الاجتماعية، وتكلّست الفضائل الأخلاقية المستمَدّة من الموروث الديني والحضاري كالتّراحم والتكافل والمروءة والشهامة، فانفتح الباب على أغرب الجرائم وأبشعها.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن