الملف الإيراني أكبر من أن يُترك فقط للجانب الأميركي، هناك وجع إقليمي إمّا ظاهر أو مكتوم من (المشروع الإيراني) في الجوار، وملخصّه إغراء أو إقناع أو تسويق إيديولوجيا لبعض الشرائح في بعض الدول العربية للانقلاب على بقية الشرائح الأخرى، تارةً باسم "الثورة"، وأخرى باسم "تحرير فلسطين"، وقد ترك ذلك المشروع ندوبًا عميقةً في الدولة الوطنية العربية التي فُعِّلَ فيها ذلك المشروع، وخسرت الاستقرار وفرص التنمية، والأكثر بناء دولةٍ وطنيةٍ، هذا هو الوجع الذي يُحتّم أن يكون هناك رأي فيما يحدث من لقاءات، تُنادي بالكفّ عن ذلك التدخل لصالح الدول المعنيّة وصالح الشعب الإيراني.
العرب ضحايا مباشرون للطموح الإيراني في الجوار
ما هو في الجو العامّ، أنّ هناك خمسين في المائة من النجاح النسبي، ومثلها من الفشل النسبي في المحادثات الجارية، إلّا أن التحذير واجب من الذهاب إلى صراعٍ عسكريّ، لأنّ الخسارة هنا سوف تكون فادحة.
المطروح على نطاقٍ واسعٍ هو الملف النووي، وهو ملف يهتم به الغرب بشكلٍ عام وأيضًا إسرائيل، هو والصواريخ الباليستية، ما يهمّ في الجوار العربي هو الملف الثالث والذي عنوانه (التدخل الإيراني في الجوار) وهو ملف أكثر من مقلق بالنسبة للعرب، لأنهم ضحايا مباشرون لهذا الطموح الإيراني في الجوار.
إيران بلد كبير وفي الوقت نفسه بلد صعب حُكمُه، وعادةً ما تُقدّم إيديولوجيةً ما في ثوبٍ دينيّ مذهبيّ لشدّ العصب الإيراني ثم يتراخى مع الزّمن، حدث ذلك في الدولة الصّفوية، تقريبًا كما يحدث اليوم ولو بتفاصيل مختلفة، ثم دخلت بعدها إيران في حروبٍ خارجيةٍ ومن ثمّ داخلية، وهكذا فترة زمنية بعد أخرى.
الأرقام ليست مُتاحةً بدقّة لسببيْن؛ الأول لا توجد مصادر موثوقة، والثاني الاقتصاد غير الرّسمي الضّخم في إيران. ما هو متوفر، أرقام صندوق النقد الدولي التي تُقدّر أنّ إيران في العقد الأخير (2014 – 2024) صرفت ما يقارب من سبعةٍ وثلاثين بليون دولار، على الساحات العراقية والسورية واللبنانية واليمنية، فيما يُعرف بمناصرة "الأذرع" للوصول الى هيمنةٍ إيرانيةٍ في الشّرق. في الوقت نفسِه، قُدّرت ميزانية إيران التقريبية في الفترة نفسِها (عقد كامل) بحوالى 2 تريليون دولار. ميزانية إيران تعاني من عجزٍ مزمنٍ، مما يضطرّها إلى طباعة أوراق نقدية من دون أي غطاء، الأمر الذي جعل العملة في انخفاضٍ مستمرّ، ومع بطالةٍ تصل إلى 30% بين الشباب المتعلّم.
أذرع إيران التي صُرف عليها مبلغ خرافي من المال خرجت أو تخرج من الخدمة
يصف لنا المؤلّف أروند أبراهميان في كتابه "تاريخ إيران الحديثة"، والذي صدرت منه نسخة عربية في سلسلة عالم المعرفة فبراير/شباط 2014، أنّ أشكال الإعدام في إيران في نهاية القرن التاسع عشر تتراوح ما بين الدفن أحياء، او قطع الرأس، او التقطيع إلى أربعة أجزاء، أو بتر الأعضاء من جملة عقوباتٍ، كناية عن صعوبةِ ضبط الأمن، وكان مجموع السكان وقتها لم يتجاوز اثني عشر مليونًا، وقد نمى هذا المجموع إلى حوالى ثمانين مليونًا في الوقت الحالي، مما يزيد من صعوبة الحُكم والتحكّم، في بلدٍ فيه عدد من القوميّات.
الأذرع التي صُرف عليها ذلك المبلغ الخرافي من المال، خرجت أو تخرج من الخدمة، فقد تحوّلت سوريا إلى مكان آخر، والتي قال عنها حسين أمير عبد اللهيان في كتابه (صبح الشّام)، إنّ أحد الأسباب الرئيسية في التدخّل في سوريا هو (حفظ المرقد الزينبي) في محاولة لتسويغ التدخّل للعوام، وهذا المرقد الزينبي ما زال بعيدًا عن أي خلل! في لبنان من الواضح أن ما كان درّة الاستثمار السياسي الإيراني يُعلن عن إفلاسه، وفي العراق، على الرَّغم من وجود بعض النفوذ، إلّا أنّه أيضًا مضيّق عليه، والحوثي في اليمن يتلقّى كمًّا من الضغط العسكري، لا تتوانى أميركا عن القول علنًا إنّه جزء من رسالة إلى طهران. أمّا في فلسطين، فقد دفع الشعب الفلسطيني ثمنًا باهظًا من الدمّ في غزّة، وفي تراجع القضية، كما لم يدفع في السبعين سنةً الماضية.
المأمول أن تقتنع طهران بأنّ مشروعها في "تصدير الثورة" فشل وأن تكتشف أنّ مشروعها في الحكم هو خارج العصر
لا أحد يُسَرُّ بتدهور الوضع في إيران، فذلك أيضًا يُشكّل خطورةً على الإقليم، كما لا أحد يُسَرُّ بنشوب حربٍ مكلفةٍ على الجميع.
المأمول أن تقتنع طهران بأنّ مشروعها في "تصدير الثورة" فشل، وبأنّ الكلفة على الشعب الإيراني أكبر وأضخم من أيّ مردود، وفوق ذلك أن تكتشف طهران أنّ مشروعها في الحكم لا يصلح أبدًا للجوار وهو خارج العصر.
الانعطافة والقبول بالاتّقاء من "الشيطان الأكبر" هما عيْن العقل، مع ترك هامشٍ للمناورة الكلامية للشارع المُترع بالشعارات، إلّا أنّ الأوفق هو في الجنوح إلى السّلم، ليس في الملف النووي ولا في الصواريخ الباليستية، ولكن، وهو الأهم، كفّ التدخل في الجوار، المُكلف ماليًا وسياسيًا في حوالى خمسين عامًا من الصراع المُميت والذي نخر بعض المجتمعات العربية وتسبّب في تخلّفها وإفقارها وحتى جوعها.
(خاص "عروبة 22")