على نحوٍ مفاجئ، قرّر محمد تكالة رئيس مجلس الدولة، تجاوز دوره الاستشاري وتكليف رئيسٍ جديدٍ لديوان المحاسبة، بدلًا من رئيسه الحالي خالد شكشك، مثيرًا بذلك اعتراض مجلس النواب.
الانقسام الذي بات سمةً رئيسيةً في المؤسّسات الليبية، انسحب على الديوان المكلّف بالكشف عن الفساد، في دولةٍ تعاني من ارتفاع الفساد في القطاع العامّ، وفقًا لتقارير دولية.
الفساد وعائدات النفط
فساد قطاع النّفط الليبي، يتجاوز فكرةَ الخللٍ الإداري، ليصبح أداةً مركزيةً في الصراع السياسي والعسكري تستفيد منه شبكات معقّدة من الميليشيات والنّخب، لتمويل وجودها وشراء النّفوذ، مما يصعّب مهمّة أي حلّ سلمي.
وكدلالةٍ على ما تشهده البلاد من تصاعدٍ كبيرٍ في الفساد والأنشطة الإجراميّة المنظّمة، وتمويل عائدات النفط (المصدر الرئيسي للدخل) للنزاعات، أرجعت المبعوثة الأممية هانا تيتيه في إحاطتها الأخيرة لمجلس الأمن الدولي، استمرار الأزمة السياسية هناك إلى التنافس على الموارد الاقتصادية.
وهكذا أصبحت زعامات ليبيا جاهزةً لمقايضة كل شيء مقابل البقاء في السلطة، على الرَّغم من التحذير من عواقب الفساد، حيث يفرض الانقسام السياسي بين حكومتيْن متنافستيْن، إحداهما في طرابلس برئاسة عبد الحميد الدبيبة، وأخرى موازية في بنغازي برئاسة أسامة حمّاد ومدعومة من البرلمان، تحدّياتٍ كبيرةً في إدارة وتوزيع عائدات النفط.
وتتولّى المؤسّسة الوطنية للنفط عمليات تصديره، وتُحوِّل العائدات إلى مصرف ليبيا المركزي في طرابلس عبر آليةٍ دُشّنت عام 2022، لتقسيم الميزانية إلى نسبتيْن: إحداهما تُودَع في حسابات مصرف ليبيا المركزي في طرابلس، والأخرى في حسابات المصرف في بنغازي، مع استقطاع هذه النسبة مباشرةً من إيرادات النفط والغاز.
وتستفيد بعض الميليشيات أيضًا من عائدات النفط بطرقٍ غير قانونية، مثل تهريب الوقود المدعوم وبيعه في السّوق السوداء، حيث تمّ مؤخّرًا الكشف عن تصدير شركة "أركينو" النّفطية الخاصّة، المرتبطة بالشرق نفطًا بقيمة لا تقلّ عن 600 مليون دولار منذ تأسيسها في عام 2023.
الحديث هنا عن الامتيازات شبه السيادية للسلالة الليبية الجديدة من "الأوليغارشية" التي تجاوزت فترة ولاياتها المشروعة، إلى اقتصاد سرّي.
دخول أميركي مفاجئ
بينما يعاني القطاع النّفطي من الفساد، سعت الولايات المتحدة لتعزيز نفوذِها عبر زيارةٍ ذات أبعاد عسكرية وسياسية، حيث تنقّل وفد عسكري أميركي رفيع المستوى، برئاسة نائب الأدميرال جيه.تي. أندرسون، قائد الأسطول الأميركي السادس، بين طرابلس وبنغازي، لمناقشة التعاون الأمني.
وعبْر السفينة التي تُعتبر "العقل المُدبّر" للبحرية الأميركية، عادت أميركا عسكريًا إلى ليبيا، بعد 14 عامًا من مشاركتها في إسقاط نظام العقيد الرّاحل معمّر القذافي عام 2011.
الزيارة التي تُعتبر جزءًا من تحرّكٍ أميركيّ متعدّد الأبعاد يدمج بين الرّمزية والانخراط التكتيكي، تزامنت مع الذكرى الـ220 لمعركة "درنة" عام 1805، التي تُعدّ أوّل تدخلٍ عسكريّ أميركي في ليبيا.
كما مثّلت أيضًا عرضًا للقوّة وتأكيدًا على الحضور الأميركي الفاعل في البحر المتوسط، في مواجهة النفوذ الروسي، حيث تُعيد واشنطن رسم أولويّاتها للحفاظ على أسواق الطاقة.
لم ينسَ وزير الدفاع الليبي الأسبق محمد محمود البرغثي، لحظة الغارات الأميركية منتصف ليلة 15 أبريل/نيسان عام 1986، على مطارَيْ طرابلس وبنغازي، حيث قُتِلَ أكثر من أربعين شخصًا معظمهم فنّيون في قاعدة "بنينا" الجويّة في بنغازي.
في نهاية المطاف، توقّفت السفينة الأميركية في موقع إغراق السفينة الليبية عين زاقوط، على بعد 20 كيلومترًا غرب بنغازي، ولم تدخل ميناء المدينة خشية غضب سكانها.
وأوْكَل المُشير خليفة حفتر قائد الجيش الوطني المُتمركز في شرق البلاد، مهمّة استقبال الوفد الأميركي لنجله خالد، الذي يقود الوحدات الأمنية في الجيش.
تقسيم غير معلن
وبينما يعتقد البعض أنّ خطّ تقسيم البلاد أصبح أكثر وضوحًا اليوم، كان "تقسيم ليبيا بحكْم الأمر الواقع"، عنوانًا اختاره مجلس العلاقات الأميركية - الليبية لمؤتمره الأخير.
وعلى الرَّغم من تعهّد الدبيبة بأنّ الحرب التي شنّها حفتر على العاصمة طرابلس عام 2019، لن تتكرّر، فقد انتقد الغياب الجَماعي لأعضاء حكومته في اجتماعها الأخير، ما دفعه للتساؤل، أهذا تمرّد أو انقلاب؟
غياب جماعي يهز حكومة الوحدة: رئيس الوزراء وحيد في اجتماع مجلس الوزراء و10 وزراء خارج الصورة وسط فوضى واتهامات بالتمرد
— Libya 24 - ليبيا 24 (@libya24tv) April 21, 2025
• الدبيبة حضر اجتماع مجلس الوزراء ووجد نفسه جالسًا مع نائبيه فقط.
• غياب 10 وزراء دفعة واحدة دون توضيحات رسمية. pic.twitter.com/9YnA9w8Jrc
كما جرى تصعيد مفاجئ في غرب ليبيا، كجزءٍ من الصراع على النفوذ داخل طرابلس، بتحرّك ميليشيا القوّة المشتركة من مصراتة، من دون علم المجلس الرّئاسي، الذي أصبح مجرّد سلطة شكليّة، وعَكَسَ رسميًا عجْزه ببيانٍ حمل في طيّاته أسبابًا مقنعةً لتقديم استقالته، لكنّه لم يفعل واكتفى بالتهديد بمساءلة من حرّك هذه القوات الأمنية والعسكرية.
وانهمك أعضاء المجلس، في طرح مبادرات هي أقرب لتسويق الوهم، أكثر من كونها قابلةً للتنفيذ، فيما عكس الاعتراف الأممي بهشاشة الوضع الليبي أيضًا، الخلافات داخل مجلس الأمن الدولي، ما يمنح الفاعلين المحليّين فرصةً أكبر للفوضى.
إذًا.. بينما تسير ليبيا على حافة الهاوية، تتقاطع "أجندات" الداخل والخارج مع غياب الحلّ، تزامنًا مع عودة أميركا عسكريًا إلى المشهد، فوق دولةٍ ابتُليت بالاستقطاب، ومهدّدةٍ بانفجار جديد يلوح في الأفق! وتستمرّ النّخب الحاكمة في تقاسم عائدات النّفط ومؤسّسات البلاد، بينما الشعب ينتظر انتخاباتٍ برعايةٍ أمميةٍ، لن تتمَّ بالضرورة!.
(خاص "عروبة 22")