إن المتتبع لتداعيات النزاع الروسي الأوكراني على عديد الدول الأوروبية، يعاين بوضوح تام أن "القارة العجوز" هي بالفعل في مفترق طرق، وأن الضبابية أضحت السمة الرئيسية في سياسات دولها، لجهة أن هذه الدول جعلت من نزاع حدودي جرى ويجري داخل الفضاء الجغرافي لما كان يُعرف بالاتحاد السوفييتي السابق، نزاعاً مصيرياً يهم "استقرار أمنها ويهدد في العُمق منظومتها الدفاعية".
ومنذ تفكك الاتحاد السوفييتي السابق أصبحت ولاتزال جغرافية دول المنطقة غير مستقرة بما تسبب ويتسبب في نشوب عديد النزاعات الحدودية تتفاوت خطورتها بمدى ارتباط هذه الدول المنبثقة عن المنظومة السوفييتية بأجندات إقليمية ودولية. وكانت الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق جو بايدن كما كانت دوماً نشطة في السعي إلى إضعاف الدولة الأقوى في المنظومة السوفييتية السابقة، أي روسيا الاتحادية، وهو ما قد يكون دفعها إلى توفير الدعم المباشر لأوكرانيا وتشجيع الدول الأوروبية على القيام بالمِثْلِ، غير أن الانقلاب المثير في سياسات ومواقف البيت الأبيض الأمريكي بعد قدوم دونالد ترامب أربك كل السياسات وأدخل المنطقة في دائرة الشك الفعلي حول مستقبل الاتحاد الأوروبي ومنظومته الدفاعية تحديداً.
وقد تجلى ذلك خاصة بعد "الحرب التجارية" التي أطلقها ترامب ضد كل الدول الصديقة والمنافسة، حيث بدأ اليقين يحصل لدى الأوروبيين بأن علاقة التحالف التاريخي والموضوعي بين أوروبا والولايات المتحدة أصبحت موضع شك جدي، وأنه من الخطأ التعويل مستقبلاً على الدعم الأمريكي اللامشروط خصوصاً فيما يتعلق بأمنها واستقرارها. وأصبحت المخاوف أكبر وأعمق بعد التلويح الأمريكي بمراجعة وجودها في حلف "الناتو" والذي يُعتبر الدرع الاستراتيجية الواقية لاستقرار ودوام الدول الأوروبية.
ودفعت حالة الارتباك هذه دول الاتحاد الأوروبي إلى حُمّى السباق نحو التسلح وذلك بتخصيص مئات المليارات من الدولارات رغم أن وضع اقتصادات هذه الدول مهتز ولاتزال تعاني تداعيات الأزمات الاقتصادية المتلاحقة، بما يبدو أنه أثار ريبة وحفيظة ومخاوف الاتحاد الروسي. وعلى مدى الأيام الأخيرة احتلت أخبار مجهودات التسلح المنابر والمواقع الاتصالية والإعلامية الأوروبية لتصبح المادة الأولى في صناعة المحتوى الإعلامي، وتسابق القادة الأوروبيون في محاولات إقناع شعوبهم "بالطبيعة الداهمة للخطر الروسي"، بما قد يبرر سياساتهم ونزوعهم إلى تقديم مسائل الدفاع عن سائر المواضيع الاقتصادية والاجتماعية الأخرى، في ضوء وضع الأزمة متعددة الأوجه المستفحلة.
وبالطبع خلقت حالة الهلع هذه مناخاً يذكر بالمناخات التي كانت تسبق الحروب وأصبحت شعوب دول الاتحاد الأوروبي تعيش على وقع حرب محتملة مع روسيا وعاد بالتالي شبح الحرب ليخيم مجدداً على القارة الأوروبية التي خالت أن هذه الوضعية أصبحت من الماضي. واليوم ومع بلوغ مئة يوم على دخول ترامب البيت الأبيض وهي المدة التي وعد فيها المواطن الأمريكي بتحقيق مجموعة من الأهداف تصب في اتجاه "تحرير أمريكا" ومن أجل "عالم بلا نزاعات"، تبين أن "العالم الجديد" الذي "بشر" به دونالد ترامب هو إعادة إنتاج لعوالم سابقة وربما في أبشع تجلياتها.
والواضح أن المنظومة الليبرالية الغربية تشهد تصدعاً غير مسبوق قد يودي بمستقبل التحالفات التقليدية التي مثلت نقطة القوة في تاريخ الغرب عموماً ومكنتها من ممارسة سلطتها وسطوتها على باقي دول العالم، ويسهم في حدوث تحولات كبرى في الجغرافيا السياسية لمنظومة العلاقات الدولية.
إن هذه التحولات المفصلية والجديدة والمثيرة تؤكد بلا شك أن العالم دخل بصفة نهائية مرحلة التعددية القطبية، وأن مِثْلَ هذه التحولات عادة ما تكون متبوعة أو مسبوقة بنزاعات وحروب متعددة الأوجه، وكانت دوماً تحسم على حساب دول الجنوب وخيراته، إلا أن الوعي الوطني المتنامي في دول ما يسمى بالجنوب الشامل قد يمثل هذه المرة الدرع الواقية لمصالح هذه الدول وقد يجبر دول المنظومة الغربية الليبرالية على تحمل فاتورة سياساتها على مدى الأحقاب والسنوات.
(البيان الإماراتية)