قطاعٌ في مرحلة مفصليّة: هل تُنقذ الصناعات التحويلية الاقتصادات العربية؟ (1/2)

على الرَّغم ممّا يُحقّقه بعض بلدان الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من إنجازاتٍ، تبقى الصّورة الإجمالية للصناعة في المنطقة غيْر مُشرقةٍ إذا قُورِنت بالإمكانات البشرية والطبيعية والمالية المتوافرة فيها، ولا سيما عند النّظر إلى الفجْوة الواسعة بين اقتصاداتها وبين الاقتصادات الناشئة الأخرى، على صعيدَي التّكنولوجيا والتكامل الإقليمي والانخراط في سلاسل الإنتاج العالمية.

قطاعٌ في مرحلة مفصليّة: هل تُنقذ الصناعات التحويلية الاقتصادات العربية؟ (1/2)

تشير بيانات "البنك الدولي" إلى أنّ مساهمة قطاع الصناعة التحويلية في النّاتج المحلي الإجمالي العالمي بلغت 17 في المئة عام 2021. في المقابل، لم تتجاوز هذه النسبة في بلدان المنطقة العربية 12 في المئة، وتنخفض إلى نحو 11.7 في المئة عند استثناء بلدان الخليج، أي أقلّ من متوسّط آسيا وأميركا اللاتينية. وتُعَدُّ بلدانٌ مثل مملكة البحرين والمملكة المغربية وجمهورية مصر العربية والمملكة الأردنية الهاشمية من بين الأكثر اعتمادًا على هذا القطاع، بنسبٍ تتراوح ما بين 16 و22 في المئة من النّاتج المحلي، لكنها تظلّ أقلّ بكثير من النّسب المسجّلة في جمهورية كوريا (كوريا الجنوبية) أو جمهورية الصين الشعبية أو حتى بعض بلدان أوروبا الشرقية. أمّا في الجمهورية الجزائرية الديمقراطية الشعبية وجمهورية العراق ودولة ليبيا، فتقلّ النسبة عن خمسة في المئة، على الرَّغم من الثروات الطبيعية الطائلة التي تملكها هذه البلدان. في العراق، مثلًا، الذي يملك ثالث أكبر احتياطي نفطي في العالم، لا تتجاوز مساهمة الصناعات التحويلية 1.6 في المئة من النّاتج المحلي، ما يطرح تساؤلاتٍ حول إدارة الموارد والخيارات الاقتصادية في العقود الماضية.

يوفّر قطاع الصناعات التحويلية حاليًا في السعودية أكثر من 1.1 مليون وظيفة

في المقابل، تُعَدُّ المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة من بين البلدان العربية الأكثر تقدّمًا في هذا المضمار، لكن بتفاوتٍ في التفاصيل. فقد رفعت السعودية استثماراتها في الصناعات التحويلية إلى أكثر من 133 مليار دولار عام 2024، وبلغت القيمة المُضافة للقطاع نحو 85 مليار دولار، مع توقّعاتٍ بنموّ سنويّ بنسبة 3.7 في المئة. ويشكّل هذا القطاع، ولا سيما في شقّه غير النفطي، إحدى ركائز "رؤية 2030"، ليس فقط من أجل التنويع الاقتصادي، بل أيضًا من أجل توليد الوظائف، إذ يوفّر القطاع حاليًا أكثر من 1.1 مليون وظيفة، منها ما يزيد عن 20 في المئة للسعوديين، مع تسجيل نموّ ملحوظ في مشاركة السعوديات. قطاع الألبان في المملكة، على سبيل المثال، نَما ليبلغ حجمه 5.8 مليارات دولار، مع توقّعات بوصوله إلى 7.1 مليارات عام 2029، وتُصدّر المملكة نحو 30 في المئة من منتجات هذا القطاع إلى بلدان الخليج الأخرى، وتبلغ حصّتها من السوق الإقليمية 60 في المئة.

بات القطاع الصناعي البحريني يُـمثّل 16 في المئة من النّاتج المحلي الإجمالي متجاوزًا حتّى قطاع النفط

الإمارات، بدورِها، اعتمدت سياساتٍ تقوم على تحويل نفسِها إلى مركزٍ صناعيّ إقليميّ وعالميّ من خلال مبادرات مثل "صُنِع في الإمارات" و"الاستراتيجية الوطنية للصناعة والتكنولوجيا المتقدّمة" (Operation 300bn)، التي تهدف إلى رفع مساهمة القطاع الصناعي من 36 مليار دولار إلى 81 مليار دولار بحلول عام 2031. وتكمن قوّة النموذج الإماراتي في نجاحه في جذْب الاستثمارات الأجنبية، وتوطين صناعات استراتيجية مثل الصناعات الدوائية والفضائية، ودمج الذّكاء الاصطناعي في سلاسل الإنتاج، وبناء بنيةٍ تحتيةٍ متقدّمةٍ للمناطق الصناعية مثل "كيزاد" في أبو ظبي و"دبي الجنوب" في دبي. وعام 2022، بلغت صادرات الصناعات التحويلية الإماراتية 154 مليار دولار، أي ثلاثة أضعاف الإنتاج المحلي البالغ 55.9 مليار، وذلك بفضل إعادة التصدير وتكامل السّوق الإماراتية مع الأسواق الدولية.

البحرين كذلك سجلت تطوّرًا نوعيًا، فارتفعت قيمة قطاعها الصناعي من 914 مليون دولار عام 2000 إلى أكثر من 9.5 مليارات دولار عام 2022، وبات يُمثّل 16 في المئة من النّاتج المحلي الإجمالي، متجاوزًا حتّى قطاع النفط. هذه النسبة تجعل البحرين استثناءً خليجيًا، إذ تحتلّ الصناعات التحويلية الصدارة، ما يدلّ على تطوّر نموذجها الاقتصادي على الرَّغم من محدودية مواردها الطبيعية. أمّا سلطنة عُمان، فشهدت نموًّا في قطاعها الصناعي بنسبة 71.5 في المئة ما بين عامَي 2015 و2022، فيما تطوّرت صادراتها التّكنولوجية إلى 44.4 في المئة من إجمالي الصادرات الصناعية، في نسبةٍ هي الأعلى خليجيًا، لكنّها تظلّ أدنى من المُعدّل العالمي البالغ 59.2 في المئة.

شبكات النّقل بين البلدان العربية غير موحّدة والأنظمة الجمركية تختلف ولا توجد مناطق صناعية مشتركة

لكن مع هذه النماذج الإيجابية، يبقى التعاون الصناعي العربي مجزّأً وضعيفًا. على الرَّغم من توقيع اتفاقيةٍ استراتيجيةٍ للتكامل الصناعي بين "المنظمة العربية للتنمية الصناعية والتعدين" (أيدسمو) و"منظمة الخليج للاستشارات الصناعية" (جويك) عام 2024، إلا أنّ تفعيلها العملي لا يزال بطيئًا ومحصورًا من ضمن مبادراتٍ فردية. فشبكات النّقل بين البلدان العربية غير موحّدة، وتختلف الأنظمة الجمركية والتشريعات، ولا توجد مناطق صناعية عربية مشتركة، كما لا تتوافر جهة تمويلية موحّدة تدعم المشاريع العابرة للحدود. وحتّى في مجالات التكامل الطبيعي، مثل الصناعات الغذائية أو الأدوية أو الصناعات البتروكيميائية، لا يزال العمل العربي المشترك يعاني من غياب الرؤية والتنسيق.

(خاص "عروبة 22")

يتم التصفح الآن